تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرنا الدالة على أن محل العقل القلب فهي كثيرة جداً كالحديث الصحيح الذي ذكر والذي فيه ألا وهى القلب، ولم يقل فيه ألا وهى والدماغ وكقوله صلى الله عليه وسلم (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ولم يقل يا مقلب الأدمغة ثبت دماغي على دينك، وكقوله صلى الله علية وسلم (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن) وهو من أحاديث الصفات ولم يقل دماغ المؤمن إلخ. والأحاديث بمثل هذا كثيرة جداً فلا نطيل بها الكلام.

وقد تبين مما ذكرنا أن خالق العقل وواهبه للإنسان بين في آيات قرآنية كثيرة أن محل العقل القلب، وخالقه أعلم بمكانه من كفرة الفلاسفة، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم كما رأيت أما عامة الفلاسفة إلا القليل النادر منهم فإنهم يقولون أن محل العقل الدماغ وشذت طائفة من متأخريهم فزعموا أن العقل ليس له مركز مكاني في الإنسان أصلاً وإنما هو زماني محض لا ما كان له، وقول هؤلاء أظهر سقوطاً من أن نشتغل بالكلام عليه. ومن أشهر الأدلة التي يستدل بها القائلون أن محل العقل الدماغ هو أن كل شيئ يؤثر في الدماغ يؤثر في العقل، ونحن لا ننكر إن العقل قد يتأثر بتأثير الدماغ ولكن نقول بموجبه، فنقول سلمنا أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ ولكن لا نسلم أن ذلك يستلزم أن محله الدماغ، وكم من عضو من أعضاء الإنسان خارج عن الدماغ بلا نزاع وهو يتأثر بتأثر الدماغ كما هو معلوم، وكم من شلل في بعض أعضاء الإنسان ناشئ عن اختلال واقع في الدماغ، فالعقل خارج عن الدماغ ولكن سلامته مشروطة بسلامة الدماغ كالأعضاء التي تختل باختلال الدماغ فإنها خارجة عنه مع أن سلامتها مشروطة فيها سلامة الدماغ كما هو معروف. وإظهار حجة هؤلاء والرد عليها على الوجه المعروف في آداب البحث والمناظرة أن حاصل دليلهم أنهم يستدلون بقياس منطقي من الشرطي المتصل المركب من شرطية متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي فينتج لهم في زعمهم دعواهم المذكورة التي هي نقيض المقدم، وصورته أنهم يقولون لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر على الدماغ لكنه يتأثر بكل مؤثر على الدماغ، ينتج العقل في الدماغ – وهذا الاستدلال مردود بالنقض التفصيلي الذي هو المنع وذلك بمنع كبراه التي هى شرطيته فنقول المانع منع قولك لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر في الدماغ بل هو خارج عن الدماغ مع أنه يتأثر بكل مؤثر على الدماغ كغيره من الأعضاء التي تتأثر بتأثر الدماغ، فالربط بين التالي والمقدم غير صحيح، والمحل الذي يتوارد عليه الصدق والكذب في الشرطية إنما هو الربط بين مقدمها وتاليها، فإن لم يكن الربط صحيحاً، كانت كاذبة، والربط في قضيتهم المذكورة كاذب، فظهر بطلان دعواهم. وهناك طائفة ثالثة أرادت أن تجمع بين القولين فقالت: إن مادل عليه الوحي من كون محل العقل هو القلب صحيح، وما يقوله الفلاسفة ومن وافقهم من أن محله الدماغ صحيح أيضاً، فلا منافاه بين القولين، قالوا: ووجه الجمع أن العقل في القلب كما في القرآن والسنة ولكن نوره يتصاعد من القلب فيتصل بالدماغ وبواسطة اتصاله بالدماغ يصدق عليه أنه في الدماغ من غير منافاه لكون محله هو القلب، قالوا: وبهذا يندفع التعارض بين النظر العقلي الذي زعمه الفلاسفة وبين الوحي وأستدل بعضهم لهذا الجمع بالاستقراء غير التام وهو المعروف في الأصول بإلحاق الفرد بالغالب وهو حجة ظنية عند جماعة من الأصوليين وعليه أشار صاحب مراقي السعود في كتاب الاستدلال في الكلام على أقسام الاستقراء بقوله:

وهو لدى البعض إلى الظن انتسب ... يشمى لحوق الفرد بالذي غلب

ومعلوم أن الاستقراء هو تتبع الإفراد حتى يغلب على ظنه أن ذلك الحكم مطرد في جميع الإفراد، وإيضاح هذا أن القائلين بالجمع المذكور بين الوحي وأقوال أهل الفلسفة في محل العقل، قالت جماعة منهم دليلنا على هذا الجمع الاستقراء غير التام، وذلك أنهم قالوا تتبعنا أفراد الإنسان الطويل العنق طولاً مفرطاً زائداً على المعهود زيادة بينة، فوجدنا كل طويل العنق طولاً مفرطاً ناقص العقل وذلك لأن طول العنق طولاً مفرطاً يلزمه بعد المسافة بين طريق نور العقل الكائن في القلب وبين المتصاعد منه إلى الدماغ، وبعد المسافة بين طرفيه قد يؤدي إلى عدم تماسكه واجتماعه فيظهر فيه النقص، وهذا الدليل كما ترى، ليس فيه مقنع وإن كان يشاهد مثله في الخارج كثيراً، فتحصل من هذا أن الذي يقول أن العقل في الدماغ وحده وليس في القلب منه شيئ أن قوله في غاية البطلان لأنه مكذب لآيات وأحاديث كثيرة كما ذكرنا بعضه، وهذا القول لا يتجرأ عليه مسلم إلا إن كان لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو إن كان كذلك ليس بمسلم ومن قال أنه في القلب وحده وليس في الدماغ منه شيئ فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يقم دليل جازم قاطع من نقل ولا عقل على خلافه، ومن جمع بين القولين فقوله جائز عقلاً ولا تكذيب فيه للكتاب ولا للسنة ولكنه يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه، ولا دليل عليه من النقل فإن قام عليه دليل من عقل أو استقراء يحتج به فلا مانع من قبوله، والعلم عند الله تعالى، وهذا ما يتعلق بالمسألة الأولى.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير