وكأن الناظم يقول: امدحه بما شئت من المدح لكن لا يصل بك المدح إلى تأليهه كما فعلت النصارى مع عيسى عليه الصلاة والسلام، وهذا باطل، وليس معنى حديث: ((لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم)) أي أطروني لكن لا يصل إطراؤكم إلى ما وصل إليه النصارى من أنه ابن الله وثالث ثلاثة! بل معناه لا تبالغوا في إطرائي كما بالغ النصارى في إطراء نبيهم حتى أداهم ذلك إلى تأليهه.
ومن ذلك قوله:
فاِنَّ لي ذِمَّةً منه بتَسمِيَتِي
مُحمَّدَاً وهُوَ أوفَى الخلقِ بالذِّمَمِ
وهذا غير صحيح، فليس كل من تسمى بمحمد صارت له ذمة بهذه التسمية فما أكثر من تسمى بمحمد وهو في عداد الفسقة، ولكن للأسف تجد كثيراً منهم يرددون هذا البيت وغيره وهم لا يفهمون معناه.
وقوله أيضاً:
لا طيبَ يَعدِلُ تُرْبَا ضَمَّ أعظُمَهُ
طوبى لمُنتَشِقٍ منه وملتَثِمِ
الانتشاق: الشم، و الالتثام: التعفر أو التقبيل، والناظم يدعو لأن ننتشق ونلتثم تراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من الغلو أيضاً.
وقوله:
لعَلَّ رَحمَةَ رَبِّي حينَ يَقسِمُهَا
تَأتِي على حَسَبِ العِصيَانِ في القِسَمِ
وهذا خطأ أيضاً، ورحمة الله تأتي على حسب الطاعة لا المعصية -كما يرجو البوصيري- وإلا لاستكثر الناس من المعاصي.
والحاصل أن البوصيري كان من غلاة الصوفية الشاذلية، ولا ينفع الذين دافعوا عنه التماسهم العذر له في بعض الأبيات أو توجيهها وجهة حسنة، فهذا إنما يقال لمن كان سليم المعتقد سليم المنهج والطريقة ثم تزل قدمُه في مسألة أو مسألتين، فهذا يُلتمس له العذر فيها، أمَّا من كانت هذه طريقته، وهذا معتقده، وهذا ديدنه، فمهما التمسنا له العذر في بيت أو بيتين فماذا عن الباقي؟! وماذا عن شرَّاح هذه القصائد الذين يؤكدون هذه المعاني و يتتابعون عليها في شرح قصائده؟!
وهذا كله لا يمنعنا أن نشيد بقوةِ شِعْره وجزالته، سواء كان من شعر مديح المصطفى صلى الله عليه وسلم أو ما فيه من حِكَمٍ ودُرَرٍ، فمن مليح المديح قوله في البردة:
أكرِمْ بخَلْقِ نبيٍّ زانَهُ خُلُقٌ
بالحُسنِ مشتَمِلٌ بالبِشْرِ مُتَّسِمِ
كالزَّهرِ في تَرَفٍ والبدرِ في شَرَفٍ
والبحرِ في كَرَمٍ والدهرِ في هِمَمِ
وقوله واصفاً الصحابة رضي الله عنهم:
هُمُ الجبالُ فَسَلْ عنهُم مُصَادِمَهُم
ماذا لَقِي منهمُ في كُلِّ مُصطَدَمِ
وَسَلْ حُنَيْنَاً وَسَلْ بَدْرَاً وَسَلْ أُحُدَا
فُصولُ حَتْفٍ لَهم أدهى مِنَ الوَخَمِ
كأنَّهُم في ظُهورِ الخَيْلِ نَبْتُ رُبَىً
مِن شِدَّةِ الحَزْمِ لا مِن شَدَّةِ الحُزُمِ
وفيها من الحكم الكثير، كمثل قوله:
والنفسُ كالطفلِ إن تهمله شبَّ على
حبِّ الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
فاصرف هواها وحاذر أن توليه
إن الهوى ما تولى يُصْمِ أو يَصِمِ
وراعِها وهي في الأعمالِ سائمةٌ
وإن هي استحلتِ المرعى فلا تَسِمِ
كم حسَّنَتْ لذةً للمرءِ قاتلةً
من حيثُ لم يَدْرِ أنَّ السُّمَّ في الدَّسَمِ
قد تُنكر العينُ ضوءَ الشَّمس من رمَدٍ
ويُنكر الفمُ طعمَ الماءِ من سقمِ
وخالفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِما
وإن هما محَّضاك النُّصْحَ فاتهمِ
ولا تُطِعْ منهما خَصْماً ولا حَكَماً
فأنت تعرفُ كيدَ الخصمِ والحَكَمِ
ومن بديع شعره:
ذهبَ الشبابُ وسوف أذهبُ مثلما
ذهبَ الشبابُ وما امرؤ بمخلَّدِ
إنَّ الفناء لكلِّ حيٍّ غايةٌ
محتومةٌ إن لم يكن فكأنْ قَدِ ([23] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=560157#_edn23))
هذا وأسأل الله عز وجل أن يهدي ضال المؤمنين وأن يردَّه إلى الحق رداً جميلاً،
وصلى الله وسلم على حبيبنا وسيدنا ونبينا محمدٍ عبدِ الله ورسوله وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newreply.php?do=newreply&noquote=1&p=560157#_ednref1))) كان على صلة بأبي الحسن الشاذلي صاحب الطريقة المشهورة عند الصوفية ولما مات لازم تلميذه ووارث طريقته أبا العباس المرسي، يقول مادحا الشاذلي وطريقته كما في (ديوان البوصيري للطباع) (ص 105):
إن الإمام الشاذلي طريقه
في الفضل واضحة لعين المهتدي
فانقل ولو قدما على آثاره
ه
فإذا فعلت فذاك آخذ باليد
واسلك طريق محمدي شريعة
ة
وحقيقة ومحمدي المحتد
ويقول مادحا أبا العباس المرسي كما في (ديوان البوصيري للطباع) (ص 108):
¥