تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والسعداء والصالحون من نتاج نوري, ثم خلق الله اثني عشر ألف حجاب، فأقام الله نوري -وهو الجزء الرابع- في كل حجاب ألف سنة, وهي مقامات العبودية والسكينة والصبر والصدق واليقين, فغمس الله ذلك النور في كل حجاب ألف سنة، فلما أخرج الله النور من الحجب ركبّه الله في الأرض، فكان يضيء منها ما بين المشرق والمغرب كالسراج في الليل المظلم, ثم خلق الله آدم من الأرض فركب فيه النور في جبينه, ثم انتقل منه إلى شيث, وكان ينتقل من طاهر إلى طيب, ومن طيب إلى طاهر, إلى أن أوصله الله صلب عبد الله بن عبد المطلب, ومنه إلى رحم أمي آمنة بنت وهب, ثم أخرجني إلى الدنيا، فجعلني سيد المرسلين وخاتم النبيين ورحمة للعالمين وقائد الغر المحجلين، وهكذا كان بدء خلق نبيك يا جابر)!

فهذا هو الحديث (!) الذي اعتمد عليه أولئك الغلاة في نسج عقيدتهم!

وقد اتفق أهل الحديث قاطبة أن هذا الحديث كذبٌ لا أصل له، وأول من جاء به شيخ أهل الحلول والاتحاد محيي الدين بن عربي الباطني (المتوفى في القرن السابع الهجري)، وجاء به دون سند! فسبعة قرون ولا يُعرف هذا الحديث في كتب المسلمين! ويجيء وفيه مصطلحات فلسفية وصوفية متأخرة! وإنما يُعرف شبيهه في كتب الباطنية الإسماعيلية -الذين درس عندهم ابن عربي-، والذين أخذوه بدورهم من الفلسفة اليونانية الوثنية مع تبديل بعض المصطلحات فقط!

ثم وهم بعض أهل العلم في القرن العاشر وعزاه لعبد الرزاق، ولم يذكر بقية اسمه، ولا في أي كتاب هو، ولا ذكر سنده! وجاء مَن بعده -مِن غير المحققين- فحسبوه عبد الرزاق المشهور عند المحدثين -وهو الإمام الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211هـ- وقد طُبعت كتبه، ولم يكن هذا الحديث فيها بالتأكيد.

ولما لم يجد هؤلاء الغلاة سنداً لحديثهم هذا: أوحى الشيطان لبعضهم أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ويفتعل له سنداً! وحصل هذا مع الأسف قريباً على يد بعض المجرمين، فزوّر مخطوطاً زعم أنه الجزء المفقود من مصنف الإمام عبد الرزاق المذكور، وركّب سنداً لهذا الحديث وأودعه فيه، وذكر معه مجموعة من الأحاديث والآثار الركيكة -لفظاً ومعنى- في نفس الموضوع، تلقفها من كتب ابن عربي وكتب الإمامية ودلائل الخيرات للجزولي! وطَبع هذا الكتاب المزوّر من يعتقد هذه الأباطيل، وهو عيسى بن مانع الحميري، وقدّم له صاحبه محمود سعيد ممدوح، وزادا على الجريمة أن كتبا في تثبيت ما فيه وتسوية شأن المخطوط، مع علمهما الأكيد بحاله.

ولكن لأن الله حفظ الدين من التحريف فقد فضح أمر المخطوط المزور وأصحابه؛ كما كشف ستر أسلافهم من الكذابين، فتتابع إنكار العلماء والمختصين في سائر أنحاء العالم الإسلامي لهذه الجريمة التي لا سابقة لها في عصرنا، وطُبع مجموعٌ في كشف حقيقة الجزء المزعوم هذا لبضع وعشرين من أهل العلم، ولي في هذا المجموع رسالتان، توسعتُ في أولاهما ببيان بطلان الحديث المذكور (ص99 - 108)، وذكرتُ هناك أقوال العلماء في تكذيب وإنكار الحديث المذكور، ومنهم: السيوطي، والجمال القاسمي، ومحمد رشيد رضا، وابن باز، والألباني، ومحمد أحمد بن عبد القادر الشنقيطي، ومحمد الطاهر عاشور، وأحمد وعبد الله الغماريين -وهما صوفيان- وغيرهم، ونقل غير واحد اتفاق أهل الحديث على بطلانه، وأن الإمام عبد الرزاق منه بريء، والأمر كذلك، وأحيل للتوسع على المجموع المذكور.

وعوداً على بدء: فإن هذه الاعتقاد الفاسد مع بُطلان دليله يناقض نصَّ القرآن الكريم، فأمر الله تعالى نبيّه أن يعلن بشريته على الملأ، فقال تعالى: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً) (الإسراء: 93)، والبشر مخلوقون من التراب، لا من النور، كما قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ) (الروم: 20)، وقال تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ) (ص: 71)، والآيات كثيرة في هذا المعنى، فليت شعري هل يسع المسلم أن يتجاوز قول الله تعالى -الواضح الصريح- إلى قول الغلاة المتأثرين بالفلاسفة وغير المسلمين؟!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير