ولذا اختار الطبري المعنى الأول للآية إذ يقول: (وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال معناه دين الله وذلك لدلالة الآية الأخرى على أنّ ذلك معناه وهي قوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم}. [سورة الروم: 30] وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه، ووشم ما نهي عن وشمه، ووشره، وغير ذلك من المعاصي ودخل فيه ترك كل ما أمر الله به، لأن الشيطان لا شَكّ أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع طاعته). ([16])
فيكون معنى الآية: أنَّ الشيطان يأمرهم بالكفر، وتغيير فطرة الإسلام التي خلقهم الله عليها وأن معنى قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} أي لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر. ([17])
وعلى هذا فليس في الآية دليل على تحريم مجرد تغيير خلق الله تعالى، بل فيها بيان أن جميع ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه فالشيطان يأمر به.
وبذلك لا يستدل بالآية على تحريم عملٍ، إلا بعد ثبوت أنّه محرم، ولا تتفرّد دليلاً على التحريم باستقلال.
ويدل على ذلك أن الشرع ورد بالأمر، أو الإذن بجملة من الأعمال التي فيها تغيير لخلق الله تعالى كالختان، وقطع يد السارق، وثقب أذن الأنثى، واتخاذ أنف بديل لما قطع، بل إن الكحل والخضاب بالحناء كلها من تغيير خلق الله تعالى وهذا كله يصب في تقوية ما أختاره الطبري - رحمه الله - ويمنع عموم الاستدلال بالآية حتى يثبت تحريم الفعل أوّلاً ليندرج بعد ذلك في مدلوله.
3) جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان إما أن يريد بها حفظ الضروريات أو مراعاة الحاجيات أو التحسينيات. وبين هذه المراتب فرقًا.
فالضرورة شدة وضيق في المرتبة القصوى بحيث يبلغ حدًا يخشى فيه على نفسه الهلاك أو مقاربة الهلاك، بضياع مصالحة الضروريّة. وإذا وجدت الضرورة فإن التحريم يرتفع قال تعالى: {وقد فَصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [سورة الأنعام: 119]. وهذا النص يقتضي وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت فيها. ([18])
أمّا الحاجة فإنها مرتبة متوسطة في المشقّة ولذا فإنّه لا يستباح بها ما يستباح بالضرورة، إلا أنّ الحاجة إذا كانت عامّة تتناول أكثر الخلق فإنها تنزّل منزلة الضرورة في حق الشخص الواحد ([19]). وأما التحسينات فهي دون ذلك.
ولما تناول الشاطبي أنّ مقاصد الشريعة في الخلق لا تعد وأن تكون ضروريّة أو حاجيّة عرّفها فقال: " فأمّا الضرورية فمعناها أنّها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة ..
وأمّا الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقّة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين على الجملة الحرج والمشقّة، ولكنّه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامّة " ([20]).
وبناء على هذا فلا بد أن نميّز بين أنواع التصرفات والإجراءات العلاجيّة، وما تهدف إليه؛ إذ منها الضروريّ، والحاجيّ، ومنها ما هو دون ذلك، فيراعى التخفيف في أمور الضروريات والحاجيات العامّة ما لا يراعى في غيرها.
4) جَسَد الإنسان ملك لله تعالى كما قال تعالى: {ولله ملك السماوات والأرض وما فيهّن وهو على كل شي قدير}. [المائدة:120]. وعليه فإنّه لا يحق لأحدٍ أن يتصرّف في ملك بما يحرمه مالكه.
وبناء على ذلك فلا يحل للطبيب أن يباشر جسم المريض إلا إذا كان سيعمل عملاً أذن به الشرع ولا يكفي إذن المريض ورضاه. قال ابن القيم: " فإنّه لا يجوز الإقدام على قطع عضو لم يأمر الله ورسوله بقطعه، ولا أوجب قطعه، كما لو أذن له في قطع أذنه أو أصبعه، فإنّه لا يجوز له ذلك، ولا يسقط الإثم عنه بالإذن ". ([21])
وقال ابن حزم: " واتفقوا أنّه لا يحل لأحدٍ أن يقتل نفسه، ولا يقطع عضوًا من أعضائه، ولا أن يؤلم نفسه، في غير التداوي بقطع العضو الألم خاصّةً ". ([22])
¥