فإن عقد زواج الرجل الذي بيَّت نية تطليق زوجته إذا قضى منها وطراً، بعد زمن محدد أو غير محدد من طرفه، دون إشعار الزوجة بذلك، و لا الاتفاق معها عليه، عقد شرعي صحيح، و إن تلبس بالحرمة بسبب ما فيه من كذب و غش و خداع و ظلم محرم.
و قد يستغرب البعض قولنا: إن العقد صحيح، مع قولنا: إن فيه من الكذب و الغش و الخداع و الظلم المحرم ما يأثم صاحبه عليه، و لا تبرأ ذمته منه إلا بتوبةٍ و إباحة.
و بيان ذلك: أن صحة العقد مترتبة على قيام أركانه و توفر شروطه، و هي:
أولاً: الإيجاب و القبول من الطرفين، و المقصود به اتفاق رغبتيهما على الزواج وفق ما بينهما من شروط، و مهر مسمى.
ثانياً: موافقة ولي الزوجة، و هو شرط عند جمهور العلماء.
ثالثاً: تسمية (تحديد مقدار) المهر المدفوع للزوجة، أو الثابت لها في ذمة الزوج.
رابعاً: إعلان الزواج و إشهاره، و أقل ما يتم الإعلان به إشهاد ذَوَيْ عدل على العقد.
فأيما عقد قران استوفى هذه الشروط فهو عقد صحيح، و المراد بكونه صحيحاً أن تترتب عليه آثاره الشرعية، و لا يخرجه عن الصحة ارتكاب أحد طرفيه أمراً محرماً كالغش و التغرير و نحو ذلك، بل يظل العقد صحيحاً، و يبوء الآثم بإثم ما اقترف.
و عليه فإن الرجل الذي تزوج مبيتاً نية التطليق، و العزم عليه عاجلاً أو آجلاً تلزمه آثار عقد النكاح ديانةً و قضاءاً، و من أهمها:
• إلحاق أبنائة من ذلك النكاح به نسباً.
• إلزامه بالنفقة و السكنى و سائر ما أوجبه عليه الشارع تجاه أبنائة، و زوجته ما دامت في عصمته، أو عدَّةِ طلاقها منه.
• لزوجته النفقة و عليها العدة إذا طلقها، و لها مع ذلك حقها من إرثه إن مات قبل أن يطلقها.
و هذه الأمور و غيرها مما أوجبه الشارع الحكيم سبحانه لا تجب إلا من عقد صحيح، و لا أعلم أحداً من أهل العلم لم يثبتها في زواج من بيَّت نية الطلاق قبل الزواج، فلزِمَ أن يكون عقداً صحيحاً.
بل المعروف عن جمهور العلماء (من أتباع المذاهب الأربعة و غيرهم) رحمهم الله تعالى هو القول بصحة هذا النكاح فقد جاء في [فتح القدير في الفقه الحنفي، ص: 349] قول الكمال بن الهمام رحمه الله: (لو تزوج المرأة و في نيته أن يقعد معها مدة نواها صحَّ، لأن التوقيت إنما يكون باللفظ).
و قال الإمام الباجي المالكي رحمه الله [في المنتقى بشرح موطأ الإمام مالك: 3/ 355]: (من تزوج امرأةً لا يريد إمساكها، إلا إنه يريد أن يستمتع بها مدةً ثم يفارقها، فقد روى محمد عن مالك أن ذلك جائز).
أما عند الشافعية فقد جاء [في حاشية الشبراملسي على شرح المنهاج: 6/ 210]: (أما لو توافقا عليه قبل و لم يتعرضا له في العقد لم يضر لكن ينبغي كراهته) و [في نهاية المحتاج: 6/ 277]: (خرج بذلك إضماره، فلا يؤثر و إن تواتطآ قبل العقد عليه. نعم، يُكره إذ كل ما لو صرح به أبطل يكون إضماره مكروهاً، نص عليه).
و قال الإمام النووي رحمه الله: (قال القاضي: و أجمعوا على أن من نكح نكاحاً مطلقاً و نيَّتُه أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فنكاحه صحيح حلال، و ليس نكاح متعة. و إنما نكاح المتعة ما وقع بالشرط المذكور. و لكن قال مالك: ليس هذا من أخلاق الناس. و شذ الأوزاعي، فقال: هو نكاح متعة و لا خير فيه) [شرح صحيح مسلم: 9/ 182].
و انظر نحو ذلك في [الحاوي، للماوردي: 9/ 333] و [مغني المحتاج، للشربيني: 3/ 183].
و من الحنابلة قال محقق المذهب الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله [كما في المغني مع الشرح الكبير: 7/ 573]: (و إن تزوجها بغير شرط، إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم، إلا الأوزاعي قال: هو نكاح متعة. و الصحيح: أنه لا بأس به، و لا تضر نيته، و ليس على الرجل أن ينوي حبس امرأته، و حسبه إن وافقته و إلا طلقها).
و قد أسهب في تحرير هذه المسألة، و أطال النفس في الانتصار إلى ما ذهب إليه الجمهور من تصحيح نكاح من نوى الطلاق ما لم يشترطه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فارجع إليه و انظره محتسباً [في مجموع الفتاوى: 32/ 147].
¥