بحث الدكتور الفنيسان -وفقه الله- يشتمل على مواضع كثيرة تحتاج إلى تعقيب .. منها:
أولا: نفيه أن يكون أحد من الفقهاء قد نص على عرض المسعى أو النكير على سعي الساعين وأن الناس كثيرا ما كانوا يسعون داخل المسجد ولم ينكر عليهم ... إلخ الحق أنه كلام غريب ..
فأين هو عن قول النووي: قال الشافعي والأصحاب: لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فمن مرّ وراء موضع السعي في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه، لأن السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره، كالطواف.
وقول الشافعي في القديم: فإن التوي شيئاً يسيراً أجزأه ولو عدل حتى يفارق الوادي المؤدي إلى زقاق العطارين لم يجزئه.
وكذا قول الدرامي: إن التوى في السعي يسيراً جاز، وإن دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا.
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة: لو سعي في مسامتة المسعى وترك السعي بين الصفا والمروة لم يجزه.
وقول العلامة الشنقيطي في أضواء البيان: اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي، فلو كان يمر من وراء المسعى حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه؛ وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه.
وعن الشافعي في القديم: أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافا يسيرا أنه يجزئه. والظاهر أن التحقيق خلافه، وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه.
ثانيا: أعجب من هذا تقريرُ الدكتور أن عرض المسعى لم يأت عليه نص من الشرع! فيا الله العجب! أين الدكتور عن قول الله عز وجل: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) ومن سعى خارجا عن مسامتتهما لم يكن مطوفا بهما بل مطوفا بجوارهما .. وهذا خلاف ما شرع الله .. ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
ثالثا: أما عن الشهود .. فهم معارضون بأمثالهم وأمثالهم ممن اعتمدت عليهم اللجنة السابقة في عهد الشيخ ابن إبراهيم .. فهل يتوقع أن تبني اللجنة رأيها، والشيخ ابن إبراهيم وبقية العلماء فتواهم دون ملاحظة هذا الأمر؟
إنني أعتقد أن القول بأن المسعى كان أوسع من الحالي فيه -دون قصد- اتهام مبطن لأهل العلم أنذاك بأنهم لم يقوموا بالواجب عليهم، وأنهم انتقصوا من مساحة هذا المشعر العظيم .. وإلا فكيف يشهد شهود بأمر مشاهد للعيان ويغفله هؤلاء العلماء جميعا!
ولو تأمل الدكتور فتاوى الشيخ ابن إبراهيم وما قامت به اللجنة من السؤال والتحري بل ومراجعة الصكوك لاتضح له أنها بلغت غاية العناية في هذا الشأن العظيم .. وأن اطراح هذا كله لشهادة عدد يسير -لم يُسمع صوتهم إلا بعد مرور أكثر من خمسين عاما- أمر لا يمكن قبوله.
ثم .. إن الصور المتوفرة بين أيدينا تدل دلالة قطعية على أن المسعى الذي كان يسعى فيه الناس -ربما قبل وجود هؤلاء الشهود- هو بالمقدار الذي عليه الآن.
ثم .. لا يسلم للدكتور أن اللجنة المشكلة في عهد الشيخ ابن إبراهيم اختصت بدرج المسعى فحسب .. بل هي مختصة بهذا وبتحديد المسعى جملةً .. وهذا واضح لم قرأ فتاوى الشيخ رحمه الله في الموضع المختص بذلك ..
لا أزال أكرر: لِمَ لم يأخذ العلماء وقت التوسعة بالشيء المشاهد -إن صح هذا- وهو أن المسعى أعرض مما هو عليه الآن؟ أليس هذا شيئا لا يمكن القبول به!
رابعا: قياس الدكتور السعي على الطواف قياس عجيب! فالطواف بالبيت متعلق بالبيت .. فكلما اتسع المطاف دائريا فلا يزال الطائف طائفا بالبيت .. أما المسعى فهو متعلق بالصفا والمروة (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) فإذا لم يطف بمسامتتهما كان الساعي طائفا بجوارهما لا بهما ..
ثم إن هذا القياس منقوض بمن سعى خارج المسجد .. وقد قرر أهل العلم أن سعيه لا يصح لأنه يكون طائفا بالمسجد لا بالبيت!
وبناء عليه فالقياس الصحيح: قياس الساعي خارج مسامتة الصفا والمروة في بطلان السعي على طواف الطائف خارج المسجد، بجامع الخروج عن المحل الشرعي التعبدي.
خامسا: نقولات الدكتور التي أوردها عن المتقدمين هي عند التأمل خارجة عن محل النزاع .. ثم إن بعضها -كأثر مجاهد- متعلق بطول المسعى لا عرضه .. ولو أنعم فضيلته النظر في هذا لاتضح له.
سادسا: وأما بناء الدكتور على قاعدة: الزيادة لها حكم المزيد .. فهو غريب أيضا
فإن هذه القاعدة مبنية على ثبوت صحة الزيادة .. بمعنى: إذا كانت الزيادة صحيحة؛ فالزيادة لها حكم المزيد .. وهذا هو محل البحث! فالمانعون يرون أن المسعى توقيفي فلا يجوز الزيادة عليه .. وعليه فلا وجه للقاعدة هنا.
سابعا: وأما الاستدلال بقاعدة المشقة وأنه إذا ضاق الأمر اتسع وقاعدة الضرورة وما إليها .. فالجواب عنه أنه لا يخفى على فضيلته أن القاعدة: أن الضرورة تقدر بقدرها .. والمانعون يرون أن هذه الضرورة مدفوعة بزيادة أدوار فوقية وليس بالمساس بأرض مشعر توقيفي ..
ثامنا: من أين للدكتور أن أعضاء الهيئة لم يراجعوا أهل الخبرة والمهندسين إلخ .. وعدم الذكر ليس ذكرا للعدم!
أختم كلامي بكلمة حسنة للشيخ محمد بن إبراهيم عليه رحمة الله .. وهي قوله: (ولو فُتحت أبواب الاقتراحات في المشاعر لأدى ذلك إلى أن تكون في المستقبل مسرحا للآراء وميدانا للاجتهادات ونافذة يولج منها لتغيير المشاعر وأحكام الحج؛ فيحصل بذلك فساد كبير ... ولا ينبغي أن يُلتفت إلى أماني بعض المستصعبين لبعض أعمال الحج واقتراحاتهم؛ بل ينبغي أن يُعمل حول ذلك البينات الشرعية بالدلائل القطعية المشتملة على مزيد الحث والترغيب في الطاعة والتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته في المعتقدات والأعمال وتعظيم شعائر الله ومزيد احترامها) 5/ 146 - 147
هذا ما تيسر في هذه العجالة .. والمقام يحتاج إلى مناقشة أطول، ولعل الله أن ييسر ويعين عليها ..
وما ذكره الدكتور مبلغ اجتهاده، وأرجو الله ألا يحرمه الأجر عليه.
أسأل الله أن يوفق الجميع للصواب في القول والعمل.
¥