كما أن قول أبي إسحاق في تحديده لجبل الصفا "إلى منعرج الوادي" ينص صراحة على اتساع هذا الجبل شمالاً إلى منعطفه من واجهته الغربية، إلى منعطفه نحو الشمال المقابل للبطحاء (الساحة الشرقية للمسعى) ولا ريب أن ما بين طرفه الغربي الجنوبي وطرفه الشمالي عند منعرج الوادي إلى الشرق من ناحية الشمال تشمله التسمية المقصودة بالخطاب في هذه الآية الكريمة، وما شمله الاسم العلم للمسمى صح اعتبار ما يحدث في بعضه من الأعمال والأقوال حادثاً في جميعه وله حكمه ووصفه شرعاً وعرفاً، ويترتب على هذا أن المنطلق (أي الساعي) بنيّة السعي من أي موضع مما يشمله اسم الصفا لغة وعرفا يكون داخلاً في عموم المراد بالخطاب بهذه الآية الكريمة، ساعياً بحق وحقيقة بين الصفا والمروة إذا ما انتهى به سعيه مما ذكرت إلى مسامتٍ له من جبل المروة المقابل له من ناحية الشمال.
وسوف لا يكبر عليك إطلاقهم اسم الصفا على كل هذه المساحة من الصدر الغربي والجنوبي الغربي من جبل أبي قبيس، ولا كيف عدّو بعض هذا الجبل جبلاً آخر وسموه أيضاً باسم آخر إذا علمت أنهم قد عدّو أصله وأسفله من ناحيته الشمالية المقبلة على المسجد الحرام وامتداد المسعى شمالاً المحاذية لموضع مولد النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم (موضع مكتبة مكة اليوم) جبلاًَ آخر سموه فاضحاً منذ أن تغلب فيه مضاض بن عمرو الجرهمي جد نابت ابن إسماعيل عليه السلام لأمه على السميع الجرهمي أيضاً ملك قبيلة قطوراء الجرهمية وقتله وافتضح قبيلته ونساءهم، وأخرجهم من الحرم، وتملك عليه (أخبار مكة للأزرقي 1/ 82 - 83، 2/ 268 - 269) وسوف لا يكبر عليك أيضاً أنهم سموا واجهته وسفحه الجنوبي والشعاب النازلة منه (أي من جبل أبي قبيس) على المسيل اللاصق به من الجنوب أجياد الصغير (الأزرقي 2/ 290) وكذلك سموا شقه الأعلى المرتبط من الشرق والشمال الشرقي بالجبال المتصلة به الخندمة (الأزرقي 2/ 269).
فهذه أربعة أسماء لجبال أربعة متفرقة الأسماء مستقلة الذوات مجتزأة من جبل واحد يسمى كل منها جبلاً مستقلاً بذاته وصفاته على الحقيقة، وينسب إليه ما يقع فيه من أحداث ووقائع، وما يخصه من أحكام أو يخص المكلفين بعمل فيه.
المقصود من ذكر ما سبق من القول: http://muntada.islamtoday.net/images2/mr01.jpg
وإنما ذكرت هذا بياناً لمجمل ما أردت إيضاحه من أن الصفا جبل متسع التكوين عريض الامتدادات من جنوبه الغربي، وشماله المحاذي للامتداد الشرقي والغربي لجبل المروة، وليس مقصوراً على الموضع الذي حجز اليوم بالبناء عليه لبدء الساعين منهم سعيهم كما يتبادر لعين المشتغل بأداء شعيرة السعي فيه، كما سأوضحه في ما يلي من بحثي هذا إن شاء الله، ليُعلم أن ما يصل بين موضعين متقابلين من هذين الجبلين مشمول بخطاب ما شرعه الله تعالى من التطوف بهما للحاج والمعتمر.
المروة في الوضع اللغوي هي واحدة المرو، بهذا عرّفها علماء اللغة في مدوناتهم العلمية.
و "المروة حجارة بيض برّاقة صلاب" (لسان العرب 15/ 275 مادة "مرا" وتاج العروس 39/ 520 مادة "مرو").
وأما المروة المرادة بالخطاب في قول الله عز وجل:"إن الصفا والمروة من شعائر الله" فهي كما قال ابن منظور في كتابه لسان العرب:"جبل مكة شرفها الله تعالى" (لسان العرب 15/ 276) وقال الفيزوز ابادي في القاموس المحيط، والزبيدي في شرحه تاج العروس:"المروة بهاءٍ: جبل بمكة يذكر مع الصفا، وقد ذكرهما الله تعالى في كتابه العزيز: إن الصفا والمروة من شعائر الله" ثم قال الزبيدي – أيضاً- قال الأصمعي: سمي (أي الجبل) لكون حجارته بيضاء براقة" (تاج العروس 39/ 521).
وقال الفيومي في المصباح المنير:"المرو الحجارة البيض، الواحدة مروة، وسمي بالواحدة الجبل المعروف بمكة" (المصباح المنير 2/ 235).
وكل هذا ينص صراحة على أن المقصود بالمروة في هذه الآية الكريمة جبل بعينه بمكة، وليس حجراً ولا موضعاً صغيراً في جبل يُقصر الحكم عليه دون غيره من بقية الجبل المقصود بالخطاب مواجهاً لجبل الصفا.
وزيادة في البيان والإيضاح أقول: سبق آنفاً أن ذكرت أن كلاً من الأزهري وابن منظور وابن الأثير وأبي حفص الحنبلي والقرطبي، وعرام قد سموا المروة جبلاً بمكة وأنه يذكر مع الصفا، وأنهما المقصودان بالخطاب في هذه الآية الكريمة "إن الصفا والمروة من شعائر الله".
¥