وقال عرّام في كتابه أسماء جبال تهامة وسكانها .. وهو يعدد جبال مكة قال:"ومن جبال مكة أبو قبيس ومنها: الصفا والمروة جبل إلى الحرة ما هو" (أسماء جبال مكة مطبوع ضمن نوادر المخطوطات 2/ 418 المجموعة الخامسة تحقيق عبد السلام هارون ط 2 عام 1394هـ).
وقال الأعشى هاجياً عمير بن عبد الله بن المنذر (ديوان الأعشى 214):
فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ... ولا لك حق الشرب من ماء زمزم
ومعلوم لكل أحد أن الشاعر يريد سكان جبل الصفا وما حوله مما هو موضع للسكن والاستقرار، ولا يريد الصفا الذي هو الحجر الأملس، لأنه ليس محلاً للسكن ولا صالحاً له، ولا هو مما يُمدح به هذا أولاً.
وثانياً: بدليل أن الشاعر قابل ذكر الصفا بذكر الحجون، فقابل جبلا ذكره بجبل متسع المواضع مريداً سكان كل من الجبلين، وهذا يدل على أن الصفا في هذه الآية الكريمة موضع متسع يمكن اليوم الاستفادة مما تشمله التسمية منه في توسيع عرض المسعى، إذ الشاعر عربي ممن يحتج بدلالة قوله في دلالة ألفاظ اللغة التي نزل القرآن مخاطباً العرب بها.
وذكر أبو إسحاق الحربي في وصفه لمكة يوم أن حج إليها في كتابه (المناسك) جبل الصفا وذكر أن امتداده أمام جبل أبي قبيس:"من طرف باب الصفا إلى منعرج الوادي .. وأن طرفاً من جبل أبي قبيس يتعرج خلف جبل الصفا" (كتاب المناسك لأبي إسحاق الحربي 479 تحقيق حمد الجاسر).
وتعرف جبل أبي قيس الذي يحتضن جبل الصفا من خلفه، والصفا أسفل منه من أول منعرجه من ناحية البطحاء (الساحة الشرقية للمسعى اليوم) إلى منعطفه إلى أجياد الصغير (موضع قصر الضيافة اليوم) تغطيه الدور التي كانت تجثم على قاعدته، وعلوه وأسفله إلى موضع السعي من الصفا المعروف اليوم كما سبق أن ذكرت آنفاً قد أزيل من موقعه بقصد توسعة المسجد الحرام على مرحلتين:
أولاهما عام 1375هـ حين قُطعت أكتاف جبل الصفا، وفتح عليها شارع لمرور السيارات يصل بين أجياد والقشاشية التي لم تبق لها اليوم عين أيضاً.
وثانيها في عام 1401هـ أزيل هذا الشارع، وقطع الجبل من أصله، وفصل موضع الصفا عن الجبل، وفتح بينه وبين الجبل الأصل طريق متسع للمشاة بين ما بقي من أصل الجبل، وبين جدر الصفا من خارجه الشرقي، تسهيلاً للحركة والمشي حول المسجد الحرام، وتيسيراً للناس عناء صعود الجبال والهبوط منها في ذلك الموضع.
وبهذا أزيل ظاهر جبل الصفا من الوجود، ودخل في ذمة التاريخ في هذا العام 1401هـ بيد أن أصله وقاعدته موجودة تحت أرض الشارع المذكور ممتدة إلى منعطفه الشمالي الشرقي المواجه لساحة المسعى الشرقية تثبت امتداداته قبل نسفه، وفصله عن أصله، وإزالة الظاهر على وجه الأرض منه.
ومعلوم لكل من رأى باب الصفا قبل التوسعة السعودية العظيمة -التي لم يسبق لها نظير في التاريخ- أن باب الصفا الذي عناه أبو إسحاق الحربي كان يخرج منه من المسجد الحرام إلى الوادي مسيل سيل البطحاء، ثم يسار فيه بعد الخروج منه بانعطاف مرتفع نحو الشرق حتى يلاقي الطريق النازل من منحدر الثنية المنكدرة من أعلى الصفا.
ومن ثم يُدخل إلى المرتفع من الصفا الذي يبدأ الساعون منه سعيهم.
وبهذا يظهر أن طرف جبل الصفا الغربي الجنوبي كان منقاداً إلى موضع السلم الكهربائي الصاعد إلى الدور الثاني من المسجد الحرام الذي سبق أن قررت القول فيه آنفاً.
كما أن قول أبي إسحاق في تحديده لجبل الصفا "إلى منعرج الوادي" ينص صراحة على اتساع هذا الجبل شمالاً إلى منعطفه من واجهته الغربية، إلى منعطفه نحو الشمال المقابل للبطحاء (الساحة الشرقية للمسعى) ولا ريب أن ما بين طرفه الغربي الجنوبي وطرفه الشمالي عند منعرج الوادي إلى الشرق من ناحية الشمال تشمله التسمية المقصودة بالخطاب في هذه الآية الكريمة، وما شمله الاسم العلم للمسمى صح اعتبار ما يحدث في بعضه من الأعمال والأقوال حادثاً في جميعه وله حكمه ووصفه شرعاً وعرفاً، ويترتب على هذا أن المنطلق (أي الساعي) بنيّة السعي من أي موضع مما يشمله اسم الصفا لغة وعرفا يكون داخلاً في عموم المراد بالخطاب بهذه الآية الكريمة، ساعياً بحق وحقيقة بين الصفا والمروة إذا ما انتهى به سعيه مما ذكرت إلى مسامتٍ له من جبل المروة المقابل له من ناحية الشمال.
¥