قال في (الإعلام): وكانت الجراكسة لهم تعصب وقيام في مساعدة من يلوذ بهم ولو على الباطل، فلما وقف على تلك الأحوال السلطان قايتباي نصر ابن الزمن، وعزل القاضي برهان الدين، وولى خصمه المنصب، وأمر أمير الحاج أن يضع الأساس على مراد ابن الزمن، ويقف عليه بنفسه، وجعل ابن الزمن ذلك رباطاً وسبيلاً.
قال: (ويالله العجب من ابن الزمن؛ كيف ارتكب هذا المحرم بإجماع المسلمين طالباً به الثواب، وكيف تعصب له سلطان عصره الأشرف قايتباي مع أنه أحسن ملوك الجراكسة عقلاً وديناً وخيريةً، وهو يأمر بفعل هذا الأمر المجمع على حرمته في مشعر من مشاعر الله تعالى، وكيف يعزل قاضي الشرع الشريف لكونه نهى عن منكر ظاهر الإنكار فرحم الله الجميع وغفر لهم). انتهى كلام النهرواني.
الإصلاح في المسعى والاعتناء بتدوينه
* الناس في هذا المشعر الحرام صنفان: محسنٌ وظالم لنفسه مبين، وتقدم ذكر شيء من الظلم هناك، وأما الإحسان والإصلاح فهو الأصل بحمد الله ومنّه وكرمه.
ولقد اعتنى العلماء بتدوين تاريخ المسجد الحرام والمشاعر العظام، وذكروا ما جرى فيها من إصلاحات وتيسير للحجاج والمعتمرين؛ اعترافاً بالجميل، وترغيباً لمن يأتي من بعد، وتعظيماً لحرمات الله، واحتفاءً بشعائره (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ).
نعم .. إن في تدوين العلماء هذا التاريخ منافع جليلة فرحمهم الله وغفر لهم.
ومن ذلك: أنهم قيدوا ما عمله الملوك والسلاطين من إصلاحات في المسعى، وذكروا أموراً كانت عندهم جليلة:
* فها هو الإمام الفاكهي من علماء القرن الثالث الهجري يثبت في كتابه: (أخبار مكة) [2 - 245] ما قام به بعض الحكام من إنارة المسعى بالمصابيح حيث قال:
ذِكْر أول من استصبح بين الصفا والمروة: وقال بعض أهل مكة: إن خالد بن عبد الله القسري أول من استصبح بين الصفا والمروة في خلافة سليمان بن عبد الملك في الحج وفي رجب.
قال: وأول من استحدث هذه النفاطات، (وهي نوع من السرج) التي بين الصفا والمروة أمير المؤمنين المعتصم بالله، يُستصبح في المواسم إلى يومنا هذا. انتهى
وذكر السنجاري في كتابه (منائح الكرم في أخبار مكة والبيت وولاة الحرم) [3 - 33] أعمال بعضِ السلاطين في سنة ثمانمائة وثلاث أربعين فقال: (وعين لميلي المسعى قنديلين من قناديل الحرم تعلق في رجب وشعبان ورمضان تضيء للمعتمرين، وجعل قنديلاً على الصفا وآخر على المروة).
وذكر ما قام به بعض الولاة في سنة ألف واثنتين وسبعين للهجرة فقال: (ودُهن علميّ المسعى وعيّن نحو ثمانين قنديلاً تسرج في الثلاثة الأشهر: رجب وشعبان ورمضان، منتشرة من الصفا إلى المروة من الجانبين في أماكن متفرقة وعمَّر سبيلاً بالمسعى). أي: لشرب الساعي بين الصفا والمروة منها.
إصلاح المسعى دونه عقبات
إن محاولة إصلاح المسعى كانت يعترضها عقبات، نعم .. لقد كان إصلاح المسعى شرفاً مدَّخراً لهذه الدولة السعودية السَّنِيَّة، ولقد حاول من قبلهم ذلك فلم يقدّر لهم.
* وممن أراد ذلك على ما ذكره الغازي في تاريخه عن البلد الحرام [التاريخ القويم 5 - 351] المشير الحاج محمد حسيب باشا، الذي تولى مكة من قِبل الدولة العثمانية عام ألف ومائتين وأربعة وستين، فقد أراد المذكور أن يوسع المسعى ويهدمها ليتسع على الحجاج حال السعي ويأخذ من الدور الداخلة في مشعر المسعى، ويجعل طريقاً للذاهب في السعي وأخر للآيب، ونصب حبلاً كان مراده أن يجعل عِوضه دربزاناً من الحديد أو غيره، وهدم بعض الدور الداخلة بالمشعر، فكتب فيه بعض أهالي مكة ونقموا عليه، وتوجه بالكتب إلى الخليفة العثماني السيد عبد الله بن عقيل توجه خفية على ناقة إلى التنعيم، ثم أخذ براً من طريق الحديبية وتوجه إلى الاستانة وشكى حاكم مكة فأمر الخليفة العثماني بعزله ووئدت فكرة توسيع المسعى في مهدها. وها هو أحد المؤرخين في الدولة العثمانية (أيوب صبري باشا المتوفى سنة ألف ومائتين وتسعين للهجرة) يتألم من حال المسعى فيقول في كتابه (رآة الحرمين الشريفين) (2 - 480): ويصيب الإنسان حيرة وهو يرى على جانبي طريق المسعى المحال والدكاكين، ووسط هذه المحال مكان للعبادة، ويدور في خاطره استحسان رفع هذا السوق من هناك.
¥