والجواب أن هذا الاستدلال بيّن الضعف؛ ذلك أن الزيادة لها حكم المزيد متى ثبت شرعا جواز الزيادة؛ وأما مع منعها فلا؛ فليس لصاحب أرض أن يغتصب الطريق المجاورة لأرضه ويضمها إليها ويقول: قد زدتها؛ والزيادة لها حكم المزيد!
والمانعون قد بينوا أن هذا المشعر توقيفي لا تجوز الزيادة عليه؛ وعليه فلا يصح الاستدلال بالقاعدة؛ بل الاستدلال بها حينئذ استدلالٌ بمحل النزاع.
الاستدلال السابع: الاستدلال بقاعدة: حكم الحاكم يرفع الخلاف.
والجواب عن هذا الاستدلال بعدم التسليم بكون هذه المسألة خلافية أصلا؛ فالخلاف فيها حادث؛ إذ هو مخالف لإجماع العلماء -بل المسلمين- قبله على أن المسعى محل تعبدي توقيفي.
ثم إن الاستدلال بهذه القاعدة موضع استغراب؛ فالحاكم في القاعدة يراد به القاضي وليس السلطان؛ ويراجع في هذا كلام العلماء عن القاعدة لا سيما ما ذكره القرافي في كتابه: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وفي كتابه الفروق أيضا.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما حكم الحاكم فذاك يقال له: قضاء القاضي ... ) مجموع الفتاوى 35/ 376
ويقال أيضا: إن القرافي وغيره من أهل العلم قد بينوا أن محل القاعدة: مسائل النزاع والخصومات بين الناس وليس التعبديات.
والمقصود من القاعدة: أنه إذا حكم القاضي على أحد الخصمين في مسألة خلافية بأحد القولين فيها فليس للمحكوم عليه أن يتنصل من هذا الحكم بحجة أنه يرجح أو يقلد خلافه، وتكون المسألة حينئذ في حقه كالمجمع عليها. هذا المقصود من القاعدة؛ وليس جعل حكمه حكما عاما للناس جميعا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس المراد بالشرع اللازم لجميع الخلق "حكم الحاكم" ولو كان الحاكم أفضل أهل زمانه؛ بل حكم الحاكم العالم العادل يلزم قوما معينين تحاكموا إليه في قضية معينة؛ لا يلزم جميع الخلق) مجموع الفتاوى 35/ 372
ويقول: (فهذه الأمور الكلية ليس لحاكم من الحكام كائنا من كان -ولو كان من الصحابة- أن يحكم فيها بقوله على من نازعه في قوله؛ فيقول: ألزمته أن لا يفعل ولا يفتي إلا بالقول الذي يوافق لمذهبي؛ بل الحكم في هذه المسائل لله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- والحاكم واحد من المسلمين؛ فان كان عنده علم تكلم بما عنده وإذا كان عند منازعه علم تكلم به؛ فان ظهر الحق في ذلك وعُرف حكم الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- وجب على الجميع اتباع حكم الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- وإن خفي ذلك أقر كل واحد على قوله -أقر قائل هذا القول على مذهبه وقائل هذا القول على مذهبه- ولم يكن لأحدهما أن يمنع الآخر إلا بلسان العلم والحجة والبيان؛ فيقول ما عنده من العلم.
وأما باليد والقهر فليس له أن يحكم إلا في المعينة التي يتحاكم فيها إليه، مثل ميت مات وقد تنازع ورثته في قسم تركته فيقسمها بينهم إذا تحاكموا إليه، وإذا حكم هنا بأحد قولي العلماء ألزم الخصم بحكمه، ولم يكن له أن يقول: أنا لا أرضى حتى يحكم بالقول الآخر، وكذلك إذا تحاكم إليه اثنان في دعوى يدعيها أحدهما فصل بينهما كما أمر الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- وألزم المحكوم عليه بما حكم به، وليس له أن يقول أنت حكمت علي بالقول الذي لا أختاره) مجموع الفتاوى 35/ 360
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -أيضا- زيادة في تحرير الكلام عن هذه القاعدة: (والأمة إذا تنازعت في معنى آية أو حديث أو حكم خبري أو طلبي لم يكن صحة أحد القولين وفساد الآخر ثابتا بمجرد حكم حاكم فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة، ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى: (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) هو الحيض والأطهار، ويكون هذا حكما يلزم جميع الناس قوله، أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى: (أو لامستم النساء) هو الوطء والمباشرة فيما دونه، أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج أو الأب والسيد وهذا لا يقوله احد ... والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين: إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة لقوله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) وإذا تنازعوا فَهِمَ كلامهم إن كان ممن يمكنه فهم الحق؛ فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعا الناس إليه، و [ولعل الصواب: أو] أن يقر الناس على ما هم عليه كما يقرهم على مذاهبهم العملية
¥