وبناءً على ذلك فالواجب هو إيقاع السعي بين الجبلين، بحيث لا يخرج المحرم عن محاذاة الجلبين من جهة العرض، كما يجب عليه استيعاب المسافة بينهما من جهة الطول، وقدرها بعض الفقهاء قديماً بـ 777 ذراعاً وقيل غير ذلك.
وينبغي التنبيه إلى أن تحديد العرض بالمحاذاة والمسامتة هو من باب التقريب وليس من باب التحديد الدقيق، ولهذا قال بعض الفقهاء: "لا يضر الالتواء اليسير" أي الخروج اليسير عن المحاذاة، ويؤيده أن الأصل هو التسامح والتيسير في الشيء اليسير.
وهذا الجانب النظري متفق عليه بين المختلفين، وإنما وقع الخلاف في التوسعة الجديدة من جهة أن المسعى الجديد هل هو داخل في البينية ومحاذاة الجبلين أو هو خارج عن السمت والمحاذاة؟ فمن رأى التوسعة الجديدة خارجة عن السمت والمحاذاة من جهة العرض أنكر التوسعة الجديدة ومنع من السعي فيها، ومن رآها داخلة في المحاذاة والبينية لم ينكر التوسعة الجديدة وأجاز السعي فيها.
وهذا الخلاف ي تحقيق المناط كما يعبر عنه الأصوليون، والمقصود به كما يقول الشاطبي: "أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى الحكم في تعيين محله" وذلك مثل الاتفاق على وجوب استقبال القبلة في صلاة الفريضة ثم يقع النظر أو الخلاف في تحديد جهة القبلة.
والخلاف في تحقيق المناط هو من جنس الخلاف في المسائل الاجتهادية التي لا يجز فيها الإنكار على المخالف، وليس في المسألة دليل قاطع يجب المصير إليه.
ولكن القدر الثابت من الناحية التاريخية والجغرافية هو أن جبلي الصفا والمروة كانا أكبر حجماً مما هو مشاهد اليوم وكانت عليهما مساكن وبيوت، كما روى الحاكم في المستدرك أن دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه كانت على الصفا ثم تصدق بها على ولده لا تباع ولا تورث حتى أخذها أبو جعفر المنصور وكانت مشرفة على المسعى حتى قال يجيى الأرقم: " والله لأعلم اليوم الذي وقع في نفس أبي جعفر، إنه يسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها ونحن على ظهر الدار فيمر تحتنا لو أشاء آخذ قلنسوته لأخذتها وإنه لينظر إلينا من حين هبط الوادي حتى يصعد حتى يصعد إلى الصفا .. ".
وممن كان له بيت على الصفا العلامة اللغوي الفيروزأبادي وقد أتم كتابه "القاموس المحيط" في منزله على الصفا وهو من علماء القرن التاسع الهجري، وقد أكد جماعة من المعاصرين العدول من كبار السن ممن شاهدوا الجبلين أعرض من الباقي اليوم، ويؤكد هذا أيضاً ما ذكره غير واحد من العلماء قديماً من كون الصفا طرفا جبل أبي قبيس، وكون المروة طرفاً من جبل قيقعان.
وأما تحديد بعض العلماء كأبي الوليد الأزري عرض المسعى بخمسة وثلاثين ذراعاً ونصف ذراع فالمراد به _ والله أعلم _ تحديد عرض المسعى الذي كان الناس يسعون فيه وقتئذ، وليس المسعى الذي تحاذى حدوده جبلي الصفا والمروة فإنه يبعد أن يكون عرض كل منهما مساوياً للآخر بهذا التحديد الدقيق، وإنما هو تحديد لما بين العلمين العلم الذي كند باب المسجد والعلم الذي دار بين العباس بن عبدالمطلب، ولا يلزم من ذلك أن يكون عرض المسعى الذي تتحقق به المحاذاة والمسامتة للجبلين بهذا المقدار بل هو أوسع من ذلك كما سبق.
ومن الثابت تاريخياً وجود بيوت كثيرة بين المسجد وبين المسعى كما يدل عليه كلام الأزرقي وابن تيميّة وغيرهما فلو حسبناها في الخمسة والثلاثين ذراعاً لما بقي لدينا للمسعى إلاّ القليل!!
وأرى أن المسألة مرتبطة بأمر آخر يجب بيانه في هذا المقام، وهو أننا لو فرضنا جدلاً خروج التوسعة الجديدة عن محاذاة الجبلي الصفا والمروة فهل يمنع ذلك من صحة السعي فيها؟
والجواب هو أن الأصل _كما عرفنا سابقاً_ وجوب إيقاع السعي بين الجبلين بحيث لا يخرج عن السمت والمحاذاة بين الجبلين ولكن لو دعت الحاجة كالزحام الشديد إلى الخروج عن محاذاة الجبلين فإن المسعى الخارج يعتبر في حكم المتصل والواقع بين الجبلين، ويسمى مثله في مصطلحات العلماء بالمتصل حكماً، وله نظائر فقهية متعددة منها:
ما ذهب إليه الحنابلة وغيرهم من صحة الاقتداء بإمام إذا كان المأموم خارج المسجد متى اتصلت الصفوف، وقد ذكر المجد وغيره أن المشترط هو الاتصال العرفي بمعنى ألاّ يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله، فالبعد اليسير أو الكثير الذي لا يخرج العادة عن الاتصال فهو كالصف المتصل حكماً.
ومنها: ما جاء عن الإمام أحمد في الرجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة وأبوابه مغلقة، فقال: أرجو ألا يكون به بأس.
ومنها: قول أحمد في المنبر يوم الجمعة إذا قطع الصف فإنه لا يضر ويجوز للحاجة، وألحق بذلك بعض الحنابلة كل بناء بني لمصلحة المسجد.
ومنها: قول الرجل لامرأته: أنت طالق _يافاطمة_ إن خرجت من الدار، فإن الشرط هنا معتبر لأنه متصل حكماً، والأصل في لك قوله صلى الله عليه وسلم: "إلاّ الإذخر" بعد فاصل يسير.
ولا شك أن واقع المسعى قبل التوسعة يعاني من الزحام الشديد الذي وقع في الحرج والمشقة، ولا سيما لدى كبار السن والنساء والأطفال، وخاصة في أيام المواسم حيث يجتمع الملايين من الناس في هذه البقعة الضيقة، ومثل هذه المشقة الزائدة معتبرة في الشرع، وهي سبب للتوسعة والرخصة كما قال الفقهاء: "المشقة تجلب التيسير" وكما قال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج).
فالخلاصة هي أن التوسعة الجديدة داخل في محاذاة الصفا والمروة وأن الزيادة لها حكم المزيد فيه، ولو فرضنا جدلاً خروجها عن المحاذاة والبينية فإن ذلك لا يمنع صحة المسعى في حالة المشقة والحاجة لكونها في حكم المتصل، ولأن الحاجة العامة تقتضيها، والله أعلم ..
كتبه الدكتور مصطفى مخدوم
عميد المعهد العالي للأئمة والخطباء
جامعة طيبة بالمدينة المنورة
http://www.alwsat.net/articles.php?ID=187&do=view
¥