تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

(مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) اختلف المفسرون في " ما " هل هي نافية فيكون المعنى: ذلك الذي لا تحيد منه، ولا تنفك منه، أو أنها موصولة فيكون المعنى: ذلك الذي كنت تحيد منه، ولكن لا مفر منه، فعلى الأول يكون معنى الآية: ذلك الذي لا تحيد منه، بل لابد منه، وقد قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ).

وتأمل يا أخي: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) ولم يقل " فإنه يدرككم "، وما ظنك بشيء تفر منه وهو يلاقيك؟ إن فرارك منه يعني دنوك منه في الواقع، فلو كنت فارّاً من شيء وهو يقابلك، فكلما أسرعت في الجري أسرعت في ملاقاته، ولهذا قال: (فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)، وفي الآية الأخرى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) النساء/ 78؛ لأنه ذكر في هذه الآية أن الإنسان مهما كان في تحصنه فإن الموت سوف يدركه على كل حال، وهنا يقول تعالى: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ).

وعلى المعنى الثاني، أي: ذلك الذي كنت تحيد منه وتفر منه في حياتك، قد وصلك وأدركك، وعلى كل حال: ففي الآية التحذير من التهاون بالأعمال الصالحة، والتكاسل عن التوبة، وأن الإنسان يجب أن يبادر؛ لأنه لا يدري متى يأتيه الموت.

" تفسير القرآن من الحجرات إلى الحديد " (ص 95، 96).

قالَ الشاعر:

الموت بابٌ وكل الناسِ داخله الا ليت شعري بعد الموت ما الدار

الدارُ جَنَّةُ خُلدٍ إِن عَمِلتَ بِما يُرضي الإِلَهَ وَإِن قَصَّرتَ فَالنارُ

3. تذكر الموت خير لا شر.

وما لي أراك – أخي الفاضل – قلقاً من الموت، خائفاً من ذِكره؟! ألم تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا بالإكثار من ذِكر الموت؟! ألم تعلم أن في ذلك خيراً عظيماً لمن فعل ذلك حتى يكون مستعدّاً للقاء ربه، ويكثر من الأعمال الصالحة قبل أن يفجأه الموت؟! وهل تعلم أن نسيان الموت والغفلة عنه تؤدي إلى التعلق بالدنيا، وتسويف التوبة، والتكاسل عن الطاعات؟!.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ - يَعْنِي: الْمَوْتَ) رواه الترمذي (2307) والنسائي (1824) وابن ماجه (4258) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".

على أننا ننبهك هنا ـ أخانا الكريم ـ إلى أن المراد بذكر الموت هو الذكر القاطع عن الانهماك في لذات الدينا وشواغلها، والحامل على الاستعداد للموت والقبر، وليس المراد بالذكر هنا الذكر السلبي الذي يوشك أن يقطع الإنسان عن مصالحه في معاشه ومعاده، ويصيبه بالإحباط أو الجبرية في أفعاله.

قال الشيخ عطية سالم رحمه الله: " المراد بذلك أن تكثر من ذكر الموت لتستعد له، لا لتكدر صفوك في الدنيا وتقول: أنا سأموت، لماذا اعمل؟!! ثم يضيق صدرك؛ لا، المراد: أكثروا من تذكُّره في نفوسكم، من أجل أن تستعدوا له " شرح بلوغ المرام (4/ 2).

وقال بعض العلماء:

" مَن أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي ذكر الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضا، والتكاسل بالعبادة ".

فينبغي أن يكون تذكرك للموت سبباً لقيامك بالطاعات، ومحفِّزاً على سرعة التوبة، ولا تجعل خوفك من الموت يسبب لك قلقاً، ولا وساوس، ولا يُقعدك عن العمل والطاعات، ولا يمنعك من الكسب، ولا يجعلك تقوم بحقوق نفسك وأسرتك، وإلا كان هذا التذكر عليك، لا لك.

ولا تنس مع ذِكرك للموت، بل إكثارك منه، أن تحسن الظن بربك تعالى، وأنه لا يظلم الناس شيئاً، وأنه تعالى يضاعف الحسنات، ويعفو ويصفح، ويقبل من عباده المسيئين توبتهم وإنابتهم، فاحذر أشد الحذر من القنوط من رحمة الله، واجمع في قلبك بين الخوف من الله وبين رجائه تعالى، فالخوف والرجاء للمؤمن كالجناحين للطائر، فلا يغني أحدهما عن الآخر

، وهذا هو حال الأنبياء والأولياء والصالحين.

قال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) الأنبياء/ 90.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير