الحال الثاني: أن يكون الحالف ظالما , كالذي يستحلفه الحاكم على حق عنده , فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف , ولا ينفع الحالف تأويله. وبهذا قال الشافعي. ولا نعلم فيه مخالفا؛ فإن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) رواه مسلم وأبو داود.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اليمين على نية المستحلف}. رواه مسلم.
وقالت عائشة: اليمين على ما وقع للمحلوف له.
ولأنه لو ساغ التأويل , لبطل المعنى المبتغى باليمين؛ إذ مقصودها تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود , خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة , فمتى ساغ التأويل له , انتفى ذلك , وصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق , ولا نعلم في هذا خلافا.
الحال الثالث: لم يكن ظالما ولا مظلوما , فظاهر كلام أحمد , أن له تأويله , فروي أن مَهَنّا كان عنده , هو والمروذي وجماعة , فجاء رجل يطلب المروذي , ولم يرد المروذي أن يكلمه , فوضع مهنا أصبعه في كفه , وقال: ليس المروذي هاهنا , وما يصنع المروذي هاهنا؟ يريد: ليس هو في كفه، ولم ينكر ذلك أبو عبد الله.
... وقال أنس: إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله , احملني. فقال رسول الله: (إنا حاملوك على ولد الناقة. قال: وما أصنع بولد الناقة؟ قال: وهل تلد الإبل إلا النوق؟). رواه أبو داود.
وقال لرجل احتضنه من ورائه: (من يشتري هذا العبد؟ فقال: يا رسول الله , تجدني إذا كاسدا. قال: لكنك عند الله لست بكاسد).
وهذا كله من التأويل والمعاريض , وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حقا , فقال (لا أقول إلا حقا) ... " انتهى ـ باختصار ـ من "المغني" (9/ 420).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله فيمن اغتاب إنسانا ثم تاب وأحسن:
" وعلى الصحيح من الروايتين لا يجب له الاعتراف لو سأله، فيعرّض ولو مع استحلافه؛ لأنه مظلوم، لصحة توبته، وفي تجويز التصريح بالكذب المباح ههنا نظر. ومع عدم توبةٍ وإحسانٍ تعريضُه كذب، ويمينه غموس، واختيار أصحابنا: لا يُعلمه؛ بل يدعو له في مقابلة مظلمته " انتهى من "الاختيارات الفقهية" (5/ 507) مطبوع مع الفتاوى الكبرى، ونقله ابن مفلح في الفروع (7/ 97).
وينظر تفصيل مسألة التأويل في الحلف في "الموسوعة الفقهية" (7/ 306).
خامسا:
جاءت الرخصة في الكذب في ثلاثة مواضع، كما في الحديث الذي رواه الترمذي (1939) وأبو داود (4921) عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ). والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي.
وهو محمول عند جماعة من أهل العلم على الكذب الصريح، لا التورية، وقد ألحقوا به ما دعت إليه الضرورة أو المصلحة الراجحة، فيجوز الكذب فيه. وإن احتاج إلى الحلف، حلف ولا شيء عليه، والأولى أن يستعمل المعاريض كما سبق.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: " قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْحَرْب خُدْعَة) ... وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيث جَوَاز الْكَذِب فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحَدهَا فِي الْحَرْب. قَالَ الطَّبَرِيُّ: إِنَّمَا يَجُوز مِنْ الْكَذِب فِي الْحَرْب الْمَعَارِيض دُون حَقِيقَة الْكَذِب , فَإِنَّهُ لَا يَحِلّ , هَذَا كَلَامه , وَالظَّاهِر إِبَاحَة حَقِيقَة نَفْس الْكَذِب لَكِنْ الِاقْتِصَار عَلَى التَّعْرِيض أَفْضَل. وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى.
وقال السفاريني رحمه الله: " فهذا ما ورد فيه النص، ويقاس عليه ما في معناه، ككذبه لستر مال غيره عن ظالم , وإنكاره المعصية للستر عليه، أو على غيره ما لم يجاهر الغير بها , بل يلزمه الستر على نفسه وإلا كان مجاهرا , اللهم إلا أن يريد إقامة الحد على نفسه كقصة ماعز , ومع ذلك فالستر أولى ويتوب بينه وبين الله تعالى.
ثم قال السفاريني: " والحاصل أن المعتمد في المذهب أن الكذب يجوز حيث كان لمصلحة راجحة كما قدمناه عن الإمام ابن الجوزي , وإن كان لا يتوصل إلى مقصود واجب إلا به وجب. وحيث جاز فالأولى استعمال المعاريض " انتهى من "غذاء الألباب" (1/ 141).
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:
" .. فالمشروع للمؤمن أن يقلل من الأيمان ولو كان صادقا؛ لأن الإكثار منها قد يوقعه في الكذب، ومعلوم أن الكذب حرام، وإذا كان مع اليمين صار أشد تحريماً، لكن لو دعت الضرورة أو المصلحة الراجحة إلى الحلف الكاذب فلا حرج في ذلك؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ويقول خيراً. قالت: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الإصلاح بين الناس، والحرب، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها) رواه مسلم في الصحيح. فإذا قال في إصلاحٍ بين الناس: والله إن أصحابك يحبون الصلح، ويحبون أن تتفق الكلمة، ويريدون كذا وكذا، ثم أتى الآخرين وقال لهم مثل ذلك، ومقصده الخير والإصلاح: فلا بأس بذلك للحديث المذكور.
وهكذا لو رأى إنساناً يريد أن يقتل شخصاً ظلماً أو يظلمه في شيء آخر، فقال له: والله إنه أخي، حتى يخلصه من هذا الظالم إذا كان يريد قتله بغير حق أو ضربه بغير حق، وهو يعلم أنه إذا قال: أخي تركه احتراما له: وجب عليه مثل هذا لمصلحة تخليص أخيه من الظلم.
والمقصود: أن الأصل في الأيمان الكاذبة المنع والتحريم، إلا إذا ترتب عليها مصلحة كبرى أعظم من الكذب، كما في الثلاث المذكورة في الحديث السابق " انتهى من "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (1/ 54).
والله أعلم.
الإسلام سؤال وجواب
http://www.islam-qa.com/index.php?ref=83093&ln=ara