المشهد الرابع مشهد الإحسان وهو مشهد المراقبة وهو أن يعبد الله كأنه يراه وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته حتى كأنه يرى الله سبحانه فوق سمواته مستويا على عرشه يتكلم بأمره ونهيه ويدبر أمر الخليقة فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه فيشهد ذلك كله بقلبه ويشهد أسماءه وصفاته ويشهد قيوما حيا سميعا بصيرا عزيزا حكيما آمرا ناهيا يحب ويبغض ويرضى ويغضب ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو فوق عرشه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ولا أقوالهم ولا بواطنهم بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها فإنه يوجب الحياء و الإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله سبحانه والذل له ويقطع الوسواس وحديث. . . النفس ويجمع القلب والهم على الله.
فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد.
المشهد الخامس: مشهد المٍنَّة
وهو أن يشهد أن المنة لله سبحانه كونه أقامه في هذا المقام وأهله له ووفقه لقيام قلبه وبدنه في خدمته فلولا الله سبحانه لم يكن شيء من ذلك كما كان الصحابة يحدون بين يدي النبي فيقولون:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
قال الله تعالى ? يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ? [الحجرات - 17] فالله سبحانه هو الذي جعل المسلم مسلمًا والمصلي مصليًا كما قال الخليل ? ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ? [البقرة - 128] وقال ? رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ? [الرعد - 40]، فالمنة لله وحده في أن جعل عبده قائما بطاعته وكان هذا من أعظم نعمه عليه.
وقال تعالى ? وما بكم من نعمة فمن الله ? [النحل - 53] وقال ? ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ? [الحجرات - 7]
وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد وكلما كان العبد أعظم توحيدا كان حظه من هذا المشهد أتم وفيه من الفوائد أنه يحول بين القلب وبين العجب بالعمل ورؤيته فإنه إذا شهد أن الله سبحانه هو المان به الموفق له الهادي إليه شغله شهود ذلك عن رؤيته والإعجاب به وأن يصول به على الناس فيرفع من قلبه فلا يعجب به ومن لسانه فلا يمن به ولا يتكثر به وهذا شأن العمل المرفوع.
ومن فوائده أنه يضيف الحمد إلى وليه ومستحقه فلا يشهد لنفسه حمدًا بل يشهده كله لله كما يشهد النعمة كلها منه والفضل كله له والخير كله في يديه وهذا من تمام التوحيد فلا يستقر قدمه في مقام التوحيد إلا بعلم ذلك وشهوده فإذا علمه ورسخ فيه صار له مشهدًا وإذا صار لقلبه مشهدا أثمر له من المحبة والأنس بالله والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته ما لا نسبة بينه وبين أعلى نعيم الدنيا ألبتة، وما للمرء خير في حياته إذا كان قلبه عن هذا مصدودًا وطريق الوصول إليه عنه مسدودا بل هو كما قال تعالى ? ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ? [الحجر - 30].
المشهد السادس: مشهد التقصير
وأن العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد وبذل وسعه فهو مقصر وحق الله -سبحانه- عليه أعظم والذي ينبغي له أن يقابل به من الطاعة والعبودية والخدمة فوق ذلك بكثير وأن عظمته وجلاله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق بها، وإذا كان خدم الملوك وعبيدهم يعاملونهم في خدمتهم بالإجلال لهم والتعظيم والاحترام والتوقير والحياء والمهابة والخشية والنصح بحيث يفرغون قلوبهم وجوارحهم لهم فمالك الملوك ورب السموات والأرض أولى أن يعامل بذلك بل بأضعاف ذلك.
¥