تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فلما أقبل الولهان على الحديقة بعد سير متعب و سفر مرهب تسلق الجدار و نظر نحو الازهار، فبانت الريحان كلها بلونها الازرق الهادي و عطره الفياح الشاذي، فدنى الولهان و تكلم معاتبا الريحان: "ويحك لقد صغر أمرك، وكبر جرمك، وضعف قدرك، ولقد أقلت بعلمك الطير، وإطلاق لسانك يجلب عليك الضير، وما يفضى بك إلى خير، وما يهلك الإنسان، إلا عثرات اللسان، فلولا لقلقة لسانك، ما غربت عن أوطانك، وأخذت من بين أقرانك، وحبست في ضيق البساتين، وسد عليك باب التوابين، فهل ذلك إلا مما جناه عليك لسانك، وأفصح به بيانك، فلو اهتديت بشيمتي، واقتديت بسيرتي، لبرئت من الملامة، وعلمت أن الصمت رفيق السلامة، ألا تراني كيف أدمن الكتابة، وأبرئ الكآبة، فكان العلم جمالي، ولزوم الأدب كمالي، اقتنصت من الحكمة قهرا، وجلبت إلى بلاد الغربة جبرا، فلا بالسريرة بحت، ولا على العشيرة نحت، بل أدبت حين غربت، وقربت حين جربت، ومنحت حين امتحنت، وقد قيل فيما تقدم من الزمان عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، نظر مؤدبي إلى تخليطى الوقت، فخاف على من المقت، فكمم تصرى بكمامة، ولا تمدن عينيك، وعقد لساني بعقدة، ولا تحرك به لسانك، وقيد قدمى بقيد، ولا تمش في الأرض مرحا، فأنا في وثاقي أتألم، ومما ألاقى لا أتكلم، فلما كممت وعلمت، وأدبت وهذبت، استخلصنى مؤدبى وصيرني إلى الصيد، وأزال عني ذلك القيد، فأطلقت وأرسلت هناك بإشارة إنا أرسلناك، فلما رفعت الأكمة عن عينى، وأصلحت ما بينه وبيني، رأيت الملوك خدمى، وأكفه من تحت قدمي"

فعندها اجاب الريحان الفتى الولهان:" قد آن حضورى، وحان سرورى، فخذونى خديما، واتخذونى نديما، فرطيب خضرتى يخبر عن طيب حضرتى، وكيف تستريح روح بغير ريحان، أم كيف يطيب وقت بغير ألحان، أنا الموعود بى في الجنان، السارى بأنفاسي إلى صميم الجنان، فلونى أعدل الألوان، وكوني ألطف ما في الأكوان، فمن جنانى يستنشق نشرى النطوى في جناني، فأنا أليف الأنهار، وحليف الأزهار، وجليس السمار، وكاتم الأسرار، فإن سمعت في جنسى بالمنام، فلا تكن له من اللوام، فإنه ما نم إلا على عطره، ولا باح إلا بسره، ولا فاح إلا بنشره، باح بسره إعلاما، ونشر بنشره أعلاما، فلذلك سمى نماما، فليس من نم على نفسه كمن نم على غيره، ولا من جاد بخيره كمن عاد بضيره، فقد جرت الأحكام، وجفت الأقلام، أن النمام مذموم بين الأنام،ويحكم إنى أفوح بوقاحة روحى بين الرياحين، وأتردد على الآثار حينا بعد حين، أجلب من خزائن الغيوب، ولا أسكن إلا في كماين الجيوب، أبوح بسرى أينما حضرت، وأفوح بعطرى أينما خطرت، لا أخفى على ذى ذوق، ولا ينكرنى من له شوق، فريحى في البساتين يعلو، وزهرى ونشرى على الأزاهير ينمو، لأن من طاب معناه، كان أطيب معناه، كان أطيب وأذكى، ومن صح دعواه، كان أطهر وأذكى، فمن أراد مراتب العلى فليعل بلطافة معانيه، وليرق فى درج معاليه، ولا يكن ممن قصر في تدانيه، فما يفوز بأمانيه. طوبى لمن عاش عيش السعدا، ومات موتَ الشهدا، إلى متى أموت بالذبول كمدا، وأكتسى بالنحول أثوابا جددا، أفتنى الأيام فما أطالت لى أمدا، وغيرتنى الأحكام فما أبقت لي جلدا، فما أقصر ما قضيت عيشا رغدا، وما أطول ما بقيت يابسا منجردا، وجميلة فضولى أننى أؤخذ أيام حصولي، فأقطع عن أصولى، وأمنع عن وصولى، ثم يتقوى على ضعفي، ويعسف بي مع ترفى ولطفى، فيتنعم بي من حضرني، ويجتلبني من نظرني، ثم لم ألبث إلا يوما، أو بعض يوم، حتى أسام بأنجس السوم، ويعاد على بعد الثناء باللوم، فحينئذ أعود يابسا، ومن النضارة آيسا، فيأخذنى أهل المعانى، ومن كان للحكمة يعانى، فتفشى بي الأورام الفاشية، وتلين بي الآلام القاسية، وتلصف بى الطبائع العاتية، ويدفع بي الأدواء العادية، والناس يتنعمون بيابسى ورطبى، جاهلون بعظم خطبى، غافلون عما أودع فىَّ من حكم ربى، ولسان الحال يقول عنى بلا ضجر، فإنى لمن تدبرنى عبرة لمن اعتبر، ونذكرة لمن ادّكر، وفىَّ مزدجر لمن ازدجر، حكمة بالغة فما تغنى النذر"

فعندها بكى المتيم الولهان ورق له الجنان من وقعة اللسان، و عرف أن الريحان يقاسي من سوء التناسي، و أن الحب مستحيل بين العباد إلا بصلة من الملك الوهاب فعندها دل الحب الولهان عن الدواء النافع و الطب القانع فقال الريحان:"أما علمت أيها المخلص الرقيق ذو القلب الشفيق أن الامر دواؤه الزواج هو الذي يقوم الاعوجاج و يبعث الابتهاج و يصفي لك المزاج و ييصير صلبا كالزجاج؟

فعندها فرح الولهان المتيم و عرف قدر علم المعلم فانقاد الى طريق العودة وهو يأمل العثور على تلك الوردة اللتي تكون له بمثابة الماء المعين و العقد الثمين.

فهل يا ترى وجد نصفه الاخر؟

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير