تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أما الأولى: فقد حدثت يوم كنت طفلاً في الخامسة من عمري على أكثر تقدير .. فقد طرق باب دارنا فقير من الفقراء، فأسرعت جدتي التي كانت ترعاني إلى الباب، ثم عادت مسرعة إلى غرفتها بدون ثوب، فأخرجت من خزانة ثيابها ثوباً آخر، وأنِسَت به، وهي تحمد الله وتشكره وتثني عليه .. وقالت:

ـ كان الفقير في أسماله يرتجف من البرد القارص، فخلعت ثوبي وكسوته به، ففرح بالثوب فرحاً عظيماً، ومضى إلى سبيله شاكراً ممتناً فرحاً، وهو يجهش بالبكاء من الفرح الغامر لا من الحزن الشديد!!.

ومن يومها عزمت ألاّ أردّ سائلاً .. فإذا عجزت عن معونته بالمال، أكرمته بما يتيسر من لباس أو متاع أو طعام، وإلاّ صرفته بالحسنى معتذراً منه، على نية أن أقدم له ما أستطيع في موعد قريب. وأكرمني الله سبحانه وتعالى بما لا أستطيع وصفه وبيانه، وحسبي أن أذكر أن فضله كان عليّ عظيماً .. فما احتجت إلى شيء مادي أبداً .. وما ضاقت عليّ الأمور إلاّ وجعل الله لي من أمري مخرجاً، ومن عسري يسراً، ورزقني من حيث لا أحتسب .. ولقد حوربت في رزقي مراراً، فظنّ الذين حاربوني أنني سألجأ إليهم محتاجاً .. ولكنني لم ألجأ إلاّ إلى الله وحده، وكان الله يعوض عليّ فوراً، ويرزقني من حيث لا أحتسب. وقد يسد البشر باباً من أبواب الرزق .. فإذا وثق المؤمن بالله، ولجأ إليه فتح له أبواباً للرزق، وصدق الله العظيم:) يمحق الله الربا ويربي الصدقات ((البقرة:276).

أما القصة الثانية: فحدثت يوم كنت في العاشرة من عمري، تلميذاً في مدرسة "باب البيض " الابتدائية بالموصل الحدباء .. فقد اختار مدير تلك المدرسة عدداً من تلاميذ كل سنة من سني المدرسة من الذين كان آباؤهم من ذوي اليسار والغنى، وطلب من كل واحد منهم مبلغاً صغيراً من النقود لشراء الدفاتر والأقلام والكتب المدرسية والثياب لأحد التلاميذ المعوزين في المدرسة .. وكان ذلك الطالب الفقير قد قرر أن يقطع دراسته وينقطع عن المدرسة نهائياً .. لأن أهله عاجزون عن سد نفقاته المدرسية، فحرص مدير المدرسة على أن يوفر له ما يحتاج إليه من نفقات مدرسية، ليستأنف دراسته كزملائه التلاميذ في المدرسة كالمعتاد.

ولم يذكر مدير المدرسة اسم التلميذ الفقير المُعدم ولكن اسمه لم يبق سراً .. بل انتشر اسمه بين التلاميذ، وبخاصة التلاميذ المطالبين بجزء قليل من المال لسد نفقاته المدرسية الضرورية المعتادة. وما كانت الدولة يومها مسؤولة عن تغطية نفقات الدراسة للدارسين، ولكن التعاون الوثيق بين أولياء أمور التلاميذ والطلاب في مختلف المراحل التعليمية من جهة، وبين إدارة المؤسسات التعليمية والمعلمين والأساتذة من جهة أخرى كان يغطي تلك النفقات.

فقد كان المعلم معلماً وأباً لتلاميذه، وكان الأستاذ أستاذاً وأباً لطلابه، وكانت إدارات المدارس والمعاهد والكليات تقوم مقام المعلم والأستاذ من جهة، ومقام الأب والأخ والأهل من جهة أخرى، وكانت الدنيا بخير، يجد فيها من يضعف عن إكمال دراسته من يواسيه ويعينه حسبة لله تعالى، فلا يضعف ولا يشقى.

وطلبت من والدي عليه رحمة الله حين عدت إلى البيت أن يدفع لي المبلغ الصغير من المال لأقدمه لمدير المدرسة الابتدائية صباح اليوم التالي، وذكرت له أن المبلغ يضم إلى المبالغ الأخرى من التلاميذ الآخرين لينفق إلى فلان ابن فلان الفقير العاجز عن إكمال دراسته لفقر أهله الشديد.

وأطرق الوالد ملياً حين سمع اسم التلميذ واسم أبيه واسم عائلته، واستغرق في إطراقه. حتى خيل إلي أنه أخذ لنفسه إغفاءة، وظننت به الظنون، ثم رفع رأسه متنهداً وقال لي:

" قبل عشرين سنة تقريباً كنت في زيارة جد هذا التلميذ الذي ذكرت اسمه، وكنت برفقة جدك لأمك أستاذي وشيخي، وكان جد هذا التلميذ يشغل منصباً رفيعاً مرموقاً في الحكومة القائمة بالموصل .. ولكنه كان يستغل منصبه لمنفعته الشخصية .. لا لمنفعة الدولة والناس. وفي ذلك المجلس في ديوانه الكبير الغاص بالزائرين من علماء ووجوه انطلق جد هذا التلميذ على سجيته، يحدث زواره عن القرى والأملاك والمنافع التي أصبحت ملكاً له في الموصل وما حولها، ثم قال: ـ الحمد لله .. لقد أمنت مستقبل أولادي وأحفادي وأبناء الأحفاد .. فإذا متّ فسأرحل قرير البال على معيشتهم بنعمة وترف وثراء!!.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير