تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وتنهد الوالد تنهداً عميقاً وهو يخرج كيسه ويسلمني ما طلبت منه من نقود، فتسلمت النقود واستقرت في جيبي، وارتسمت على وجهي ابتسامة عريضة .. لأن مدير المدرسة سيرضى عني .. ولكن والدي استأنف حديثه معي فقال لي:

" وهذا هو حفيد ذلك الجد الذي جمع ماله من الحرام، يجمع له المدير هذا المال .. لأن والده افتقر بعد غنى .. وذل بعد عز .. لأن ماله الذي ورثه عن أبيه مال حرام .. ولو كان حلالاً لما أتلفه الله سبحانه وتعالى بهذه السرعة وهذا الوقت القصير!! ".

وسكت والدي طويلاً، وكنت ساهماً أتدبر كلماته: مصير المال الحرام، ثم قطع عليّ تفكيري بقوله: " هذه نقود إضافية ادفعها للمدير أيضاً، والحمد لله على المال الحلال ".

ولا تزال كلمات والدي ترن في أذني كل ساعة وكل يوم:.

"الحمد لله على الرزق الحلال"

كأني أسمعها منه في هذه اللحظة، وقد مضى إلى جوار ربه قبل سنوات، وسمعتها من قبل ستين سنة تقريباً .. وكلما مرت السنون بأحداثها ازددت يقيناً بهذه الحكمة: "الحمد لله على الرزق الحلال". بل ازددت إيماناً بحكمة جديدة بعد أن تبدلت النفوس، وتضاعف تكالب الناس على المادة .. فقد علمتني الحياة أن المرء الذي يريد أن يصون شرفه من أن تنهشه الألسنة التي لا تخشى الله، وتخوض في أعراض الناس، عليه ألاّ يبتعد عن المال الحرام فحسب .. بل عليه أن يبتعد عن كثير من المال الحلال أيضاً ليصون شرفه وعرضه في الدنيا .. وهو بحرمان نفسه من الحلال لا يكاد ينجو بشرفه وعرضه إلاّ بشق الأنفس!!.

أما بركة الاقتصار على الرزق الحلال فهي نعمة عظيمة تشمل الأهل والولد، والحاضر والمستقبل .. وهي حماية وضمان .. ولكن يا ليت قومي يعلمون.

أما القصة الثالثة التي تركت عبرتها الباقية في نفسي فقد حدثت يوم كنت في العشرين من عمري .. حيث كنت ضابطاً صغيراً في مقتبل حياتي العسكرية، أعمل طالباً في مدرسة الفرسان ببغداد. فقد عرضت للبيع أرض للأوقاف النبوية على الضباط والموظفين بثمن بخس، وجرى تعميم هذا العرض على الضباط وأصحاب المناصب العليا من الموظفين، فتسلمت نسخة من هذا العرض.

كان ثمن المتر الواحد من تلك الأرض الوقفية عشرة فلوس (قرش واحد)، وكانت الأرض قريبة جداً من أبنية بغداد وأسواقها وقلب العاصمة، وكان باستطاعة الضابط أن يتملك من تلك الأرض آلاف الأمتار ببضعة دنانير يدفعها أقساطاً.

وحملت هذا العرض في ورقته الرسمية إلى والدي، فقرأ العرض، وتوقعت أنه سيفرح به .. ولكني رأيته قد تمعر وجهه، واتَّقد غضباً لله تعالى، ثم رمى العرض بوجهي قائلاً: " يا ولد!! هذه الأرض أوقاف نبوية لا تباع، وهذه الورقة لا تحلل ولا تحرم، ولا ينجيك كاتبها والآمر ببيع الأرض من عذاب الله .. إنها نار .. نار .. فحذار أن تدخلها". ولم أكن في حينه أعرف الأوقاف ولا الأوقاف النبوية بل لم أكن قد سمعت بأنها حلال أو حرام .. فابتعدت عن شراء قطعة من تلك الأرض التي أصبحت بعد سنوات قليلة قصوراً ضخمة، وبقيت أتنقل من دار مستأجرة إلى مثلها تسمى: داراً في التعبير المجازي لبساطتها وقدمها وضيق مرافقها وحرمانها من الشمس والخضرة والهواء النقي، ولأنها صغيرة المساحة.

ولكن فرحة الذين تملكوا تلك الأرض لم تطل، لأنهم احترقوا بنارها، فقتل قسم منهم، وأعدم آخرون، وسحل بعضهم، ومات عدد منهم في الغربة بعيدين عن قصورهم مشردين مطاردين، ووقع البلاء على ذرياتهم، فمرضوا أو أصيبوا بسمعتهم وأعراضهم، ولا تزال لعنة تلك الأرض تلاحق ذراريهم حتى اليوم. وقد أصبح ثمن المتر الواحد من تلك الأرض خمسمائة دينار، فما انتفع الذين اشتروها ولا ذريتهم بغلائها. وهل ينتفع بالمال أهل القبور؟!.

وحملني الخوف من نار الأوقاف أن أدافع باستقتال عن الأملاك الموقوفة .. وقد حدث أن استولت إحدى المؤسسات الحكومية على أرض موقوفة وتصرفت فيها، فرفعت معاملة الاستملاك إلى المراجع العليا للموافقة على الاستملاك وتقرير الثمن المناسب.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير