والذي أنصح به نفسي وإياك أن نسلك طريق العدل والإنصاف، وأن نزن الناس بمجموع أعمالهم لا بمفرداتها، وأن نتقي الله تعالى في مثل هذا المسلك الخطير، والذي لا يفرح به إلا الأعداء.
وفرق كبير بين النصيحة والتعيير، وبين النقد الهادف والنقد الجارح الذي لا يفيد شيئاً.
ويجب أن تعلم أنه لا يمكن أن يسلم من الخطأ أحدٌ من البشر إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخطئ إلا الذي لا يعمل.
وسأذكر لك في هذا الجواب من كلام أئمة الدين ما يوضح لك بعض خبايا هذا الموضوع، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى -أثناء شرحه للحديث الخامس والثلاثين من الأربعين النووية [لا تحاسدوا، ولا تناجشوا ... ] رواه مسلم:
ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذوراً، وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متبعا لهواه مقصرا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيرا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعا، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه فهذا الظن قد يخطئ ويصيب.
وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى أو الإلف أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله.
فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه، ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.
وهاهنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحا ويكون مجتهدا فيه مأجورا على اجتهاده فيه، موضوعا عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة، لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله، ولا انتصر له، ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه، ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه، وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده، وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته، وأنه لا ينسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق، فافهم هذا فإنه مهم عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ا. هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة (4/ 543 - 544):
"ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.
ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة بين طائفتين:
1) طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه
2) وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد.
والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق.
ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه ويبغض من وجه.
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم، وقد بسط هذا في موضعه". انتهى.
وإليك هذا النموذج المشرق من واقع سلفنا الصالح -رحمهم الله- والذي يوضح لك سر هذا القبول والرفعة التي جعلها الله لهم.
قال يحي بن معين: "أخطأ عفان في نيف وعشرين حديثا، ما أعلمت بها أحدا، وأعلمته فيما بيني وبينه، ولقد طلب إلي خلف بن سالم، فقال: قل لي: أي شيء هي؟ فما قلت له، وما رأيت على أحد خطأ إلا سترته، وأحببت أن أزين أمره، وما استقبلت رجلا في وجهه بأمر يكرهه. ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه".
ومن جميل ما يذكر في هذا الباب تلك المقولة التي أطلقها الإمام الكبير، ذو العقل الراجح، أبو عبد الله الشافعي.
¥