تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قَالَ القَاضِي: تمضي إلى البستانِ معي، فأتوارى بالجدرانِ، وأسلمُ إليكَ الثيابَ، وتمضي على المسارِّ والمحابِّ.

قَالَ اللِّصُّ: سبحان الله؛ تشهدُ لي بالعقلِ، وتخاطبني بالجهلِ!، ويحكَ من يؤمنني منكَ؛ أن يكونَ لكَ في البستانِ غلامانِ جلدانِ علجانِ، ذوا سواعدٍ شديدةٍ، وقلوبٍ غيرِ رعيدةٍ، يشداني وثاقًا، ويسلماني إلى السلطانِ، فيحكم فيَّ آراءَهُ، ويقضي عليَّ بما شاءَهُ.

قال له القاضي: لَعَمْرِي؛ إنهُ منَ لم يفكرْ في العواقبِ، فليسَ له الدهرُ بصاحبٍ، وخليقٌ بالوَجَلِ، من كان السلطانُ له مراصدًا، وحقيقٌ بإعمالِ الحيلِ من كانَ للسيئاتِ قاصدًا، وسبيلُ العاقلِ أن لا يغترَّ بعدوِهِ، بل يكونُ منهُ على حذرٍ، ولكنْ لا حذرَ من قدرٍ، ولكنْ أَحلفُ لكَ أَلْيَةَ مُسْلِمٍ وَجَهْدَ مُقْسِمٍ أني لا أوقعُ بكَ مكرًا ولا أضمرُ لكَ غدرًا

قَالَ اللِّصُّ: لعمري؛ لقد حَسَّنْتَ عبارتكَ ونمقتَهَا، وحسَّنْتَ إِشَارَتَكَ وطبقتها، ونثرتَ خيرَكَ على فَخِّ ضَيْرِكَ، وقد قيلَ في المثلِ السائرِ على ألسنَةِ العَرَبِ:

" أَنْجَزَ حُرٌّ مَا وَعَدَ، أَدْرِكِ الأَسَدَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَقِي عَلَى الفَرِيْسَةِ لِحْيَاهُ، وَلاَ يُعْجِبْكَ مِنْ عَدُوٍّ حُسْنُ مُحَيَّاهُ " (3)

وأنشد:

لا تُخَدِّشْ وَجْهَ الحَبِيْبِ فَإِنَّا = قَدْ كَشَفْنَاهُ قَبْلَ كَشْفِكَ عَنْهُ

واطَّلَعْنَا عَلَيْهِ وَالمُتَوَلِّي ====== قَطْعَ أُذنِ العَيَّارِ أَعْيَرُ مِنْهُ

ألم يزعمِ القاضي أنهُ كتبَ الحديثَ زمانًا، ولقيَ فيهِ كهولاً وشُبانًا، حتى فازَ بِبَكرِه وعَوْنِهِ، وحازَ منهُ مَعْنى مُتُونِهِ وعُيُوْنِهِ.

قَالَ القَاضِي: أجلْ

قَالَ اللِّصُّ: فأيُّ شيءٍ كتبتَ في هذا المَثَلِ الذي ضربتُ لكَ فيهِ المثَل وأعملتُ الحيَل

قَالَ القَاضِي: ما يحضرني في هذا المقامِ الحَرِجِ حديثٌ أسندُهُ، ولا خبَرٌ أوردُهُ، فقدْ قطعتْ هيبتُكَ كلامِي، وصدَّعتْ قبضتُكَ عِظَامِي، فلسَاني كليلٌ، وجَنَاني عليلٌ، وخاطِرِي نَافِرٌ، وَلُبِّي طَائِرٌ.

قَالَ اللِّصُّ: فليسكنْ لبُكَ، وليطمئنَّ قلبُكَ، اسمعْ ما أقولُ وتكون بثيابِكَ، حتى لا تذهبَ ثيابكَ إلا بالفوائِدِ.

قَالَ القَاضِي: هاتِ.

قَالَ اللِّصُّ: حدثني أبي عن جدي عن ثابتٍ البُنَانِي عن أنسِ بنِ مالكٍ قالَ قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَمِيْنُ المُكْرَهِ لاَ تَلْزَمُهُ فَإِنْ حَلَفَ وَحَنَثَ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ)) (4)

وأنتَ إنْ حلفتَ؛ حلفتَ مُكرهًا، وإنْ حنثتَ؛ فلا شيءَ عليكَ، انْزَعْ ثِيَابَكَ.

قَالَ القَاضِي: يا هذا؛ قد أعيتني مضاءةُ جنانكَ، وذرابةُ لسانكَ، وأخذُكَ علي الحُججَ من كلِّ وجهٍ، وأتيتَ بألفاظٍ كأنهَا لسعُ العقارِبِ، أقمْ هَا هُنا حتى أمضيَ إلى البستَانِ، وأتَوَارى بالجُدرانِ، وأنزِعَ ثيابي هذهِ، وأدفعَهَا إلى صبيٍّ غيرِ بالغٍ، تنتفعَ بها أنتَ، ولا أُنْهَتَكَ أَنَا، ولا تَجري على الصَّبِيِّ حُكومةٌ، لِصِغَرِ سِنِّهِ، وضَعْفِ مُنَّتِهِ.

قَالَ اللِّصُّ: يا إنسانُ؛ قد أطلتَ المناظَرَةَ، وأكثرتَ المحاورَةَ، ونحنُ على طريقٍ ذي غَرَرٍ، ومكانٍ صعبٍ وعِرٍ، وهذِهِ المُرَاوَغَةُ لا تُنْتِجُ لكَ نفعًا، وأنتَ لا تستطيعُ لما أَرُوْمُهُ منكَ دفعًا، ومع هذا؛ أفتزعمُ أنكَ من أهلِ العلمِ والروايَةِ، والفهمِ والدرايَةِ، ثُمَّ تَبْتَدِعُ!

وقد رويَ عنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ ((الشَّرِيْعَةُ شَرِيْعَتِي وَالسُّنَّةُ سُنَّتِي فَمَنِ ابْتَدَعَ فِيْ شَرِيْعَتِي وَسُنَّتِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ)) (5)

قَالَ القَاضِي: يا رجلُ، ومَا هذا منَ البِدَعِ؟!

قَالَ اللِّصُّ: اللصوصيةُ بنسيئةٍ بدعَةٌ (6)، انزعْ ثيابكَ، فقد أوسعتَ من ساعةٍ مِحَالَكَ، ولم أشدُدْ عقالكَ، حياءً من حسنِ عبارتِكَ، وفقهِ بلاغتِكَ، وتقلُّبِكَ في المناظَرَةِ، وصبرِكَ تحتَ المُخَاطَرَةِ.

فَنَزَع القَاضِي ثِيَابَهُ، ودَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَأَبْقَى السَّرَاوِيْلَ.

فقَالَ اللِّصُّ: انزعْ السَّرَاويلَ، كي تَتِمَّ الخِلْعَةُ.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير