كلامٌ نفيس للعلاّمة الشنقيطي في إثبات التوحيد وإبطال (قصة الغرانيق).
ـ[العوضي]ــــــــ[28 - 08 - 07, 05:20 م]ـ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فقد ألف عدد من العلماء في إبطال (قصة الغرانيق) من ناحية الإسناد، وقد تكلم بعضهم عليها من ناحية المتن أيضاً، ومن نفيس ما قرأت كلام العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى ورفع درجته، في إبطال هذه القصة، وهو كلام بديع يدل على رسوخه في العلم.
قال رحمه الله:
إن القول بعدم صحتها له شاهد من القرآن العظيم في سورة النجم نفسها، وشهادته لعدم صحتها واضحةٌ، وهو أن قوله تعالى:" أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ".الذي يقول القائل بصحة القصة: إن الشيطان القى بعده ما ألقى، قرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد في تلك اللحظة في الكلمات التي تليه من سورة النجم قوله تعالى:"إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ "
فهذا يتضمن منتهى ذم الغرانيق التي هي كناية عن الأصنام، إذ لا ذمَّ أعظم من جعلها أسماء بلا مسميات، وجعلها باطلاً ما أنزل الله به من سلطان.
فلو فرضنا أن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تلك الغرانيق العلى بعد قوله:" وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى "، وفرح المشركون بأنه ذكر آلهتهم بخير، ثم قال النبي في تلك اللحظة:" إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ "
وذم الأصنام بذلك غاية الذم، وأبطل شفاعتها غاية الإبطال، فكيف يعقل بعد هذا سجود المشركين وسبُّ أصنامهم هو الأخير والعبرة بالأخير.
وقال رحمه الله: اعلم أن براءة ساحة خاتم الرسل وأشرفهم وسيد ولد آدم بالإطلاق عليه صلوات الله وسلامه مما جاء في ظاهر هذه القصة تدل عليها البراهين القاطعة، والأدلة الساطعة
كما ستراه.
وقول الشيطان: تلك الغرانيق العلى. شركٌ أكبر صُراح، وكفرٌ بواح، وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم مبعوثٌ لإخلاص العبادة لله وحده مما تضمنته كلمة لا إله إلا الله، كجميع إخوانه المرسلين، قال تعالى:" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ " وقال:" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ "
وقال تعالى:" وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ "
فإخلاص العبادة لله وحده هو دعوة عامة الرسل، وأشدهم فيه احتياطاً خاتمهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذا منع بعض الأمور التي كانت مباحة عندهم احتياطاً في توحيد الله وعبادته جل وعلا، فالسجود لمخلوق في شريعته السمحة كفرٌ بالله تعالى، مع أنه كان جائزاً في شرع غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى عن يعقوب وأولاده في سجودهم ليوسف:" وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً ".
ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقول للناس: إنه ما أوحي إليه توحيد الله تعالى في عبادته في قوله تعالى:" قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ " وقد تقرر عند الاصوليين والبيانيين أن لفظ (إنما) من أدوات الحصر فدلت الآية على حصر الموحى إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أصله الأعظم الذي هو (لا إله إلا الله) لانها دعوة جميع الرسل وغيرها من شرائع الإسلام وفروعها تابعة لها.
فإذا حققت هذا علمت أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يقول: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. لما في هذا الكلام من الشرك الصراح والكفر البواح، المضاد لما جاء به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ولا يقدر الشيطان أن يجري ذلك على لسانه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لانه ليس له عليه من سلطان بشهادة القرآن وبإقرار الشيطان قال جل وعلا:" َفإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ِإنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ".
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الذين أمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وأنه ليس من الذين يتولونه والذين هم به مشركون.اهـ بتصرف
والحمد لله رب العالمين
رحلة الحج إلى بيت الله الحرام 126 – 130 (دار عالم الفوائد)
منقول