تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[عبادة السر!!]

ـ[أبو معاذ اليمني]ــــــــ[21 - 09 - 07, 05:35 م]ـ

[عبادة السر!!]

فيصل بن علي البعداني

فإن حقيقة التدين تتمثل بمحبة الله - تعالى - وتعظيمه، ومخافته ورجائه، والتذلّل له، والخضوع التام لأمره واجتناب نهيه، قولاً وعملاً، خفية وعلناً.

فهو تسليم مطلق، وانقياد كامل، في الاعتقادات والأقوال والأعمال، برغبة جيّاشة، واختيار واعٍ، وتشرف وافتخار.

فالتدين حالة مركبة من المعرفة والشعور والسلوك، يكون غاية مطلوب العبد منها: الظفر برضا مولاه - عز وجل -، ونيل رحمته، والسلامة من غضبه.

وفي أجواء التدين ومجتمعات الدعاة تكون الصورة العامة المقبولة هي الالتزام والمحافظة الظاهرة التي من خرج عنها وُوجه باللوم والمذمّة، وهي ـ لا شك ـ حالة فضل وإنعام تحتاج إلى شكر لله - تعالى - من الفرد والمجتمع على توفيقه وتيسيره.

لكن المحكَّ العملي الذي تتجلى من خلاله حقيقة تلك الاستقامة العلنية يكون في عبادات السرّ المتضمنة لعبادات الخلوة والخفاء (1) ولعبادات القلب.

فأما عبادة القلب فهي أجلُّ عبادات السِّر وأعظمها، فالله - عز وجل - لا يناله من عبده إلا التقوى، ولا ينظر إلى الصور والأموال وإنما إلى القلوب والأعمال، ولا ينفع عنده يوم تبلى السَّرائر مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والإيمان ليس بالتمنِّي ولا بالتحلِّي، ولكن ما وقرَ في القلب وصدَّقه العمل، كما يشهد لذلك قوله - تعالى: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (2).

وأما عبادات الخفاء وقُرَب السِّر المشتملة على تعظيم أمر الله - تعالى - ونهيه، والإكثار من مناجاته فهي عمل آخر جاءت النصوص والآثار مكثرة من الحثّ عليه، فمن ذلك قوله - تعالى -: {إنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]، أي: يخافونه - سبحانه - حال خلوتهم به بعيداً عن أعين الخلق (3)، وقوله - عز وجل -: {إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]، والآية الكريمة ظاهرة في تفضيل صدقة السِّر، والتي ثبت أنها تطفئ غضب الرب - سبحانه - (4)، وجاء من السبعة الذين يظلّهم الله - تعالى - يوم القيامة في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه: «رجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه» (5). وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة»، قال الترمذي: «ومعنى هذا الحديث أن الذي يسرُّ بقراءة القرآن أفضلُ من الذي يجهر بقراءة القرآن؛ لأن صدقة السِّر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية» (6).

وما ذاك إلا لما في قُرْبَة السِّرِّ ـ بعيداً عن رؤية الخلق ـ من عظم إيمانٍ، وكمال أدبٍ مع الله - تعالى - وتعظيمٍ له - سبحانه -، ولما فيها من حضور قلبٍ واجتماع هَمٍّ وابتعادٍ عن القواطع والمشتتات، وثقةٍ بالله - تعالى وأُنْسٍ به، واطمئنانٍ إليه، ومراقبةٍ له، ومخافةٍ منه، ومطالعة مِنَّتِه، وتطلعٍ للظفر بمحبته وثوابه، ولما فيها من تخليصٍ للنفس من الطمع بثناء الخلق وحب مدحهم وكراهية ذمّهم، وضمان سلامتها من بعض دسائس السوء من رياء وسمعة وتصنُّع، فهي أبلغ في التضرع والخشوع، وأمكن في التذلّل والخضوع.

ولذا؛ فقد جاء التوجيه النبوي الكريم بحثِّ العبد المؤمن على أن يكون له عبادة في السِّر، فعن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - مرفوعاً قال: «من استطاع منكم أن يكون له خِبءٌ من عملٍ صالحٍ فليفعل» (1)، وكان الفضيل بن عياض يقول: (كان يقال: من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرةِ قلوبهم خلائقُ ثلاثة: الحلم، والأناة، وحظٌّ من قيام الليل) (2)، ويحكي الخريبي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئةٌ من عمل صالح لا تعلم به زوجته ولا غيرها (3)، وقال مسلم بن يسار: (ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخلوة بمناجاة الله - عز وجل -) (4).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير