قلت: وإنما لم يصحح الترمذي-والله أعلم-مع ثقة رجاله لأن فيه انقطاعاً بين أبي صرمة وهو صحابي اسمه مالك بن قيس وبين محمد بن قيس ولم يسمع منه. قال الحافظ في ترجمته من التقريب: ((ثقة من السادسة, وحديثه عن الصحابة مرسل)).اهـ كلام الألباني.
هكذا أعل الألباني هذا السند, وسيعلن إن شاء الله تعالى مجانبته للصواب حتماً. وبيان ذلك: أن محمد بن قيس سمع من أبي صرمة مالك بن قيس الصحابي. ولم يصب الألباني في دعوى الانقطاع بين محمد بن قيس وأبي صرمة, بل قلد الحافظ م تعالى حيث عد محمد بن قيس من السادسة, وهم من لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة رضوان الله عليهم. ولو رجع الألباني إلى كتب الرجال-غير التقريب-لعلم أن عد محمد بن قيس من السادسة خطأ, ولكنه يعتمد على التقريب-فقط-كثيراً, ولولا اعتماده عليه فقط لما وقع في هذا الخطأ.
وبيان ذلك أنهم عندما ترجموا لمحمد بن قيس ذكروا أنه يروي عن أبي صرمة, وعندما ترجموا لأبي صرمة ذكروا أن محمد بن قيس يروي عنه, وسكتوا إقراراً ولم أر من قال إن محمد بن قيس لم يرو عن أبي صرمة تصريحاً أو تلويحا, بل إنهم في ترجمة محمد بن قيس ذكروا روايته عن جابر بن عبد الله وأبي هريرة ثم تعقبوا ذلك بأنه مرسل.
قال الحافظ المزي: روى-أي محمد بن قيس-عن جابر بن عبد الله يقال مرسل, وسليمان بن عبد الملك بن مروان, وعبد الله بن أبي قتادة, وعبد الرحمان بن يزيد بن معاوية, وعمر بن عبد العزيز, وأبيه قيس المدني, ومحمد بن كعب القرضي, وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري, وأبي سلمة بن عبد الرحمن, وأبي صرمة الأنصاري, وأبي هريرة يقال مرسل, وعن أمه عن أم سلمة. اهـ. تهذيب الكمال [3/ 1261].
وفي ترجمة أبي صرمة الأنصاري قال: ((روى عنه زياد بن نعيم الحضرمي, وعبد الله بن محيريز الجمحي, ومحمد بن قيس المدني, ومحمد بن كعب القرضي .... )) إلخ. تهذيب الكمال [3/ 1616].
فمن تكلم في روايته عن الصحابة, ففي روايته عن جابر وأبي هريرة فقط. وفي الجرح والتعديل [4/ 1/63]: ((محمد بن قيس قاص عمر بن عبد العزيز مديني, روى عن أبي هريرة مرسل وعن جابر مرسل, وروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي صرمة ... )) إلخ, وقال في نفس المصدر [4/ 1/214]: ((مالك بن قيس أبو صرمة المازني له صحبة, روى عنه ابن محيريز, ومحمد بن كعب القرضي, ومحمد بن قيس ... )) إلخ.
وهكذا الشأن في كتب الصحابة () ,وكتب الرجال المعتمدة المتداولة.
فصل
ليس للحافظ قول واحد في محمد بن قيس, بل له أربعة أقوال: الذي في التقريب, واثنان في التهذيب, والأخير في الإصابة.
الأول: في ترجمة محمد بن قيس قال: ((روى عن أبي هريرة وجابر يقال مرسل، وأبي صرمة الأنصاري .... إلخ)).التهذيب [9/ 414].
فانظر كيف ضعف روايته عن أبي هريرة وجابر ثم سكت عن أبي صرمة.
الثاني: في التهذيب [13/ 134] في ترجمة أبي صرمة قال: ((روى عنه محمد بن كعب القرضي، ومحمد بن قيس المدني .... إلخ))،ثم قال الحافظ: ((وروى عنه أيضاً محمد بن يحيى بن حبان أفاده العسكري وهو غلط، وإنما روى محمد عن ابن محيريز عنه)).اهـ.
فانظر كيف أقر الحافظ رواية محمد بن قيس عن أبي صرمة، وتعقب رواية غيره-محمد بن يحيى-عنه.
الثالث: ذكر في الإصابة [4/ 108] رواية محمد بن قيس عن أبي صرمة.
فهذه ثلاثة أقوال للحافظ تدفع دعوى الانقطاع، وهذه الثلاثة بلا شك أقوى وأولى بالعمل من قوله في التقريب،فلعله سبق قلم منه رحمه الله تعالى قصد أن يكتب عن أبي هريرة مرسل فجمع الصحابة.
وعليه فدعوى الانقطاع التي ادعاها الألباني دعوى مردودة لا دليل عليها بل ولا شبهة له يتعلق بها. وهي مخالفة لاتفاق الأئمة الحفاظ قاطبة من أن محمد بن قيس يروي عن أبي صرمة.وهكذا يكون نقد الثقات عند الألباني،يسارع إلى جرح ((صحيح مسلم)) فرحاً مطمئناً، فهلا رجع إلى الأصول الأولى قبل الإقدام على ذلك الجرح؟ ولكن فرحه بالاستدراك على الإمام مسلم حجبه عن أن يبحث ويراجع ويفكر ويتهم نفسه وعلمه أمام الإمام الذي شهد له الناس بالحذق والإتقان من أهل عصره إلى يومنا ما شاء الله.
نعم ذكر ابن حبان محمد بن قيس في ثقاته [7/ 393] على أنه من تابعي التابعين وقال: ((يروي عن الحجازيين، روى عنه محمد بن إسحاق وحماد بن سلمة)) ,وابن حبان أحياناً يذكر الراوي في طبقة غير طبقته، وهذا يعلمه الألباني، ورأيته نبه على بعض من ذلك في كتبه. على أن ابن حبان ذكر من الرواة عنه محمد بن إسحاق وحماد بن سلمة وجل رويتهما عن التابعين.
فَصل
أما قول الألباني: ((وإنما لم يصححه الترمذي ..... )) إلخ فإن هذا تقويل للترمذي ما لم يقله، وكأن الألباني يريد أن يقول إن الترمذي رأيه مخالف لكل الحفاظ، والترمذي حافظ مطلع عالم بالعلل, قال له البخاري-إمام أهل الصناعة-: ((استفدنا منك أكثر مما استفدنا منا)).فمثله يعلم أن محمد بن قيس روى عن أبي صرمة الأنصاري.
أما عدم تصحيحه للحديث, فهذا لا يضر الحديث, فلكل رأيه. والترمذي حسن بعض أحاديث الصحيحين كما لا يخفى, ولا يلزم من إخراج الحديث في الصحيحين أو أحدهما أن يصححه الترمذي. لكن هل قام في خَلَد أحد من أهل الحديث أن الانقطاع ينزل الحديث من رتبة الصحة إلى الحسن؟! ربما لا تجد هذا إلا في فهم الألباني وعلمه، ذلك أن الانقطاع ينزل الحديث إلى رتبة الضعيف ولو كان رواته أئمة حفاظ في غاية الضبط والإتقان. والله أعلم.
¥