تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

إنه ما بين أحدنا وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزِل به، وإن غايةً تنقصها اللحظة ويهدمُها الساعة لجديرة بقِصر المدّة مهما طالت، وإن غائباً يحدوه الجديدان الليلُ والنهار لحريّ بسرعة الأوبة، فرحم الله امرأً قدّم توبته وغالب شهوتَه، فإن أجلَه مستور عنه، وأمله خادعٌ له، والشيطان موكّلٌ به، يزيّن له المعصية والتفريط ليركبهما، ويمنّيه التوبة ليسوّفَها، يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً [النساء:120].

فالبدار البدار قبل مفاجأة الأجل، فلو أن أحداً يجد إلى البقاء نفقا في الأرض أو سلماً في السماء دون أن يُقضى عليه بالموت لكان ذلك لسليمان بن داود عليه السلام الذي سخَّر الله له ملك الجن والإنس، والرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الأصْفَادِ [ص36 - 38]، هذا مع نبوّته وعظيم زلفته، غيرَ أنه لما استوفى طُعمتَه واستكمل مُدّته رماه قوسُ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديارُ منه خالية، وورثها قوم آخرون. وإن لكم في القرون السالفة لعبرة، وإلا فأين العمالقة وأبناء العمالقة؟! وأين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟! أين أصحاب مدائن الرسّ؟! وأين عاد وثمود وإرمُ ذات العماد التي لم يُخلق مثلها في البلاد؟!

فيا مؤخِّراً توبته بمطل التسويف، لأيّ يوم أجّلتَ توبتك وأخَّرت أوبتك؟! لقد كنت تقول: إذا صمتُ تبت، وإذا دخل رمضان أنبت، فهذه أيام رمضان عناقِد تناقصت، لقد كنتَ في كل يوم تضع قاعدة الإنابة لنفسك، ولكن على شفا جرف هار. ويحك أيها المقصّر، فلا تقنع في توبتك إلا بمكابدة حزن يعقوب عن البين، أو بعبرة داود ومناداة أيوب لربه في ظلمات ثلاث: لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، أو بصبر يوسف عن الهوى، فإن لم تُطق ذلك فبذلِّ إخوته يوم أن قالوا: إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف:97].

نعم أيها المذنب المقصر، لا تخجل من التوبة، ولا تستح من الإنابة، فلقد فعلها قبلك آدم وحواء حين قالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، وفعلها قبلك إبراهيم حين قال: وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ [الشعراء:82]، وفعلها موسى حين قال: رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ [القصص:16]، وقد قال رسول الله: ((إن أيوب نبيَّ الله لبث في بلائه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوته، كانا من أخصِّ إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلَمُ والله، لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحدٌ من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة لم يرحمْه الله فيكشف ما به. فلما راح إليه لم يصبر الرجلُ حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول، غيرَ أن الله يعلم أني كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفِّر عنهما كراهية أن يُذكر الله إلا في حق، ـ قال: ـ وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله إلى أيوب في مكانه: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، فاستبطأته فبلغته، فأقبل عليها حتى قد أذهب الله ما به من البلاء، فهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك، هل رأيتَ نبي الله هذا المبتلى، واللهِ على ذلك ما رأيتُ أحدًا كان أشبهَ به منك إذ كان صحيحاً، قال: فإني أنا هو، وكان له أندران (1) [1]: أندرُ القمح وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض)) رواه ابن حبان والحاكم وصححه الذهبي (2) [2].

فلا إله إلا الله، من يمنع المذنب من التوبة؟! ولا إله إلا الله، من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؟!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير