ولئن سلما أن أبا الزبير يدلس عن جابر، فحديثه عن جابر بالذات مقبول،وإن لم يُصرح بالسماع، وبيان ذلك في الوجوه الآتية:
1 ـ أن أبا الزبير كان مكثراً عن جابر،بل اكثر الرواة عنه هو أبو الزبير ([20])،فإهدار ما رواه غير مُصرح بالسماع فيه مخالفة لعمل المحدثين المصنفين الذين تلقوا هذه الترجمة بالقبول كما مر ذلك [ص 38/ 39].بالإضافة إلى أنه يؤدي إلى التشكيك في حديث جابر بن عبد الله،ولما كان جابر من الصحابة المُكثرين كان رد ما رواه أبو الزبير عن جابر معنعناً فيه مخاطرة كبيرة،وتعدٍّ على السنة المطهرة.
2 ـ أن أبا الزبير أثبت الناس في جابر بن عبد الله.قال عطاء:" كنا إذا خرجنا من عند جابر بن عبد الله تذاكرنا حديثه، فكان أبو الزبير من أحفظنا للحديث ".المعرفة والتاريخ [2/ 22].وقال سفيان:" ما نازع أبو الزبير عمرو بن دينار في حديث إلا زاد عليه".
3 ـ قال الحافظ صلاح الدين العلائي: ((وقد ألحق الحاكم بابن عيينة في قصر التدليس عن الثقات التابعين بأسرهم،قال:فإنهم كانوا لا يدلسون إلا عن ثقة،ولم يكن غرضهم من الرواية إلا أن يدعوا لله عز وجل ... فأما غير التابعين فأغراضهم فيه مختلفة)).اهـ.
تعقبه الحافظ العلائي في جامع التحصيل [ص 116] فقال: ((وهذا لا يتم إلا بعد ثبوت أن من دلس من التابعين لم يكن يُدلس إلا عن ثقة،وفيه عسر، وهذا الأعمش من التابعين وتراه دلس عن الحسن بن عمارة، وهو يعرف ضعفه، وقد تقدم أن من التابعين من كان يُرسل عن كل أحد كعطاء وأبي العالية والزهري، والحاكم مُعترف بذلك، فكيف يُرسلون عن كل أحد ولا يُدلسون إلا عن ثقة، هذا فيه نظر)).اهـ.
قال الفقير إلى الله:لعل الحاكم رحمه الله تعالى يقصد أن التابعين إذا دلسوا عن الصحابة وكان الذي أسقطوه تابعي فهو ثقة. لأن الحسن بن عمارة ليس من التابعين بل هو من أتباعهم.
ويؤيد كلام الحاكم قول العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في الهدي النبوي [2/ 327]: ((وأبو الزبير وإن كان فيه تدليس،فليس معروفاً بالتدليس عن المتهمين والضعفاء بل تدليسه من جنس تدليس السلف. لم يكونوا يدلسون عن متهم ولا مجروح، وإنما كثر هذا النوع من التدليس في المتأخرين)).اهـ.
فهذا نص من ابن القيم خاص في أبي الزبير وعام في التابعين فافهم هذا وتأمله. وإن وجدنا تابعياً قد دلس عن ضعيف فلا نحكم بالأقل على الكثير، ونطرح كلام الحاكم كله الذي لم ينفرد به، بل الأولى أن نستثني هذا التابعي، ويبقى باقي كلامه على عمومه و خصوصه في الحجازيين، فلا مانع بعد ذلك من أن نستأنس ونستشهد بكلام الحاكم فقط، أما الاحتجاج به فبعيد.
4ـ طول ملازمة أبي الزبير لجابر، وإكثاره عنه لا تحتاج إلى تحرز من تدليسه ـ إن صحت تلك الدعوة ـ لأن طول الملازمة تؤدي إلى ضبط المروي وتميز صحيحه من سقيمه ومعرفة المحدث لحديث شيخه. ولعلماء الحديث أمثلة على ذلك منها: ((سليمان بن مهران الأعمش)).فرغم أنه دلس عن ضعفاء بل عن الحسن بن عمارة الذي قال الحافظ فيه في التقريب [1/ 691]:متروك، رغم ذلك قال الذهبي في الميزان [2/ 224]: ((ومتى قال عن تطرق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ له أكثر عنهم ([21]) كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال)).اهـ.
فانظر بعين الإنصاف ودع عنك طريق الإعتساف واحكم بالعدل والإنصاف.إذا قبل المحدثون رواية الأعمش عن شيوخه الذين أكثر عنهم مع تحقق تدليسه عن الضعفاء بل المتروكين حتى قال فيه الذهبي نفسه: ((ربما دلس عن ضعيف ولا يدري)) ([22]).اهـ.
فلماذا يرد المتعدي عنعنة أبي الزبير عن جابر مطلقاً في صحيح مسلم أو غيره مع أن أبا الزبير أكثر الرواة عنه؟ وإكثاره عن جابر أشهر من إكثار الأعمش عن شيوخه المذكورين كما يعلم من مطالعة تحفة الأشراف وكتب الرجال. وبعد، فمن يرد عنعنة أبي الزبير عن جابر ويقبل عنعنة الأعمش عن شيوخه المذكورين يكون قد تناقض مع نفسه وأبان عن قصر نظره وخالف عمل المحدثين، والله يتولانا بعنايته.
فصل
ولئن سلمنا أن أبا الزبير المكي لا يقبل حديثه مطلقاً من غير رواية الليث بن سعد عنه ما لم يصرح بالسماع أو ما يقوم مقام السماع، فم حكم رواية أبي الزبير المكي الذي في صحيح مسلم التي لم يصرح فيها بالسماع؟.
¥