ونهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسلمين عن كلامنا من بين كل من تخلف عنه، قال فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرضُ فما هي بالأرضِ التي أعرف، ولبثنا على ذلك خمسين ليلةً، وكنتُ أشد القوم وأجلَدَهم فكنتُ أخرجُ فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق فلا يكلمني أحد،، وآتي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في مجلسِه بعد الصلاة فأسلمَ عليه فأقولَ في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا.
ثم أصلي قريباً منه فاسارقَه النظر فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت إليه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيتُ حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو أبنُ عمي وأحبُ الناسَ إلي، قال فسلمت عليه، فواللهِ ما ردَ علي السلام.
فقلتُ له نشدتُك الله هل تعلمني أحبُ اللهَ ورسولَه؟ فسكت.
فنشدتهُ فسكت، فأعدتُ عليه فنشدته فقال اللهُ ورسولُه أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار أهيمُ على وجهي.
وأنظر أخي في الله كيف تكاتف المجتمع المسلم بكاملة، وامتثل الأمر الموجه إليه، فلا أحد يكلمه، حتى ولو كان ذلك في غيبة أعين الرقباء، نعم إن الرقابة لله، حتى ولو كان ابن عمه، نعم إن المراقبة لله.
إن أضر شيئا على المجتمع أن يجد أهل الفسق والفجور صدورا رحبة تحتضنهم وترضى عنهم وتبجلهم وتقدرهم، ولو أن العصاة والمنحرفين وجدوا مقاطعو وازدراء عاما لكان دافعا إلى أن يرشد الغاوي ويستقيم المعوج ويصلح الطالح.
انظر إلى ذلك الأسلوب التربوي العميق المتمثل في تلك المقاطعة النفسية والاجتماعية التي شملت مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، في الأسواق، في المساجد، مع الأصدقاء، بل حتى مع بني العمومة، بل حتى مع الزوجة، فلم تترك منفذا يمكن أن يخل بهذه المقاطعة أو يحول دون تحقيق الغاية التربوية منها.
كان لذلك تأثير عميق على النفوس الخيرة التي تعودت أن تألف وتُألف وذلك عين الحكمة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي تقضي باللين في مكانه، والشدة في مكانها، وهذا ما يحتاجه الناس في دعوتهم، وتعاملهم وتربيتهم لمن تحت أيديهم.
عبد الله:
وهل تخفى أخبار المجتمع الإسلامي على الأعداء، إن هناك صفا يعمل داخل الصف الإسلامي دائما، ولذلك يجب أخذ الحيطة والحذر، وأن لا تكون أسرار وخفايا المجتمع المسلم معلنة للجميع لتنقل للعدو فينفذ من داخلها للمسلمين.
يقولُ كعبٌ: فبينا أنا أمشي في سوقِ المدينة إذ نبطي من أنباط أهلِ الشامِ يقول: من يدل على كعب؟
فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع لي كتابا مِن مَن؟
من ملك غسان، فإذا فيه أما بعد:
فإنه قد بلغني أن صاحبك (يعني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) قد جفاك، ولم يجعلُك الله بدارِ هوانٍ ولا مضيعة فألحق بنا نواسك.
فلما قرأتها قلت أيضا هذا من البلاء، هذا من الامتحان فيممت بها التنور وسجرته بها (احرقها).
عباد الله:
هذا هو ديدن أعداء الله، يتحسسون الأنباء، ويترصدون الفرص والأخطار، وكم من الأقدام في مثل هذا زلت وانزلقت، إن المسلم قد يخطأ ولكنه لا يعالج الخطأ بخطأ آخر، قد يخطأ فيتخلف عن الغزو في سبيل الله، لكنه لا يتبع هذا بخيانة الأمة وموالاة أعداء الله ومظاهرتهم على المؤمنين.
إن أداة المعصية يوم تكون قريبة فإنها تذكر بالمعصية، وتفتح للشيطان باب الوسوسة والمراودة الكرة بعد الكرة، أما كعب فقد تخلص من هذه الأداة فأحرقها حتى يغلق مثل هذا الباب رضي الله عنه وأرضاه وهذا هو الحل.
إن آلة المعصية التي توجد في المنازل، في المكاتب، وفي غيرها، يوم تترك بعد العلم بضررها فإنها مدعاة لأن يضعف أمامها يوما ما، ويعاود القرب منها والممارسة لها إلا من عصم الله، فلينتبه وليتخلص منها كما فعل كعب بالرسالة، يمم بها التنور فسجرها.
ولا يزال البلاء والتمحيص بكعب، حتى أمر باعتزال زوجته فامتثل الأمر واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
يقولُ كعب:
وكملت لنا خمسون ليلةً وأنا على ظهرِ بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكرها الله في ما بعد قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرضُ بما رحبت، سمعتُ صوتَ صارخٍ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته:
يا كعبَ أبشر بخيرِ يومٍ مر عليكَ منذُ ولدتكَ أمك.
قال فخررتُ ساجداً شاكراً لله عز وجل، وعرفتُ أن قد جاء الفرج.
¥