وعند المالكيّة: تنتهي الولاية على النّفس بالنّسبة للصّغير ببلوغه الطّبيعيّ، وهو بلوغ النّكاح، فيذهب حيث شاء، ولكن إذا كان يخشى عليه الفساد لجماله مثلاً، أو كما إذا كان يصطحب الأشرار وتعوّد معهم أخلاقاً فاسدةً، يبقى حتّى تستقيم أخلاقه.
وإذا بلغ الذّكر رشيداً ذهب حيث يشاء، لانقطاع الحجر عنه بالنّسبة لذاته، وإذا بلغ الذّكر - ولو زمناً أو مجنوناً - سقطت عنه حضانة الأمّ على المشهور.
وبالنّسبة للأنثى، فتستمرّ الحضانة عليها والولاية على النّفس حتّى تتزوّج، ويدخل بها الزّوج.
وعند الشّافعيّة: تنتهي الولاية على الصّغير - ذكراً كان أو أنثى - بمجرّد بلوغه.
وعند الحنابلة: لا تثبت الحضانة إلاّ على الطّفل أو المعتوه، فأمّا البالغ الرّشيد فلا حضانة عليه، فإن كان رجلاً فله الانفراد بنفسه لاستغنائه عن أبويه، وإن كانت أنثى لم يكن لها الانفراد، ولأبيها منعها منه، لأنّه لا يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها، ويلحق العار بها وبأهلها، وإن لم يكن لها أب فلوليّها وأهلها منعها من ذلك.
انتهى
هذه أقوال المذاهب في وقت انتهاء مسئولية الأهل عن أولادهم، وقد ميزنا الموقف من الابن الذكر عن الابنة الأنثى، لبيان الفرق بينهما، وكلمة العلماء تكاد تكون متفقة على أن مسئولية الأهل على ابنتهم تستمر حتى لو بلغت، ومنهم من جعل زواجها نهاية تلك المسئولية؛ وذلك من أجل وجود مسئول آخر عنها، ومنهم من اشترط كونها في مكانٍ آمن لا خوف عليها فيه، وتفريقهم بين الذكر والأنثى واضح بيِّن، والقاسم المشترك بين الذكر والأنثى: أنه إن كان لا تُؤمن أخلاقهم إذا انفردوا، أو كان يُخشى عليهم من الصحبة الفاسدة، أو عدم حسن التصرف: فإن مسئولية الأهل تبقى متصلة، غير منقطعة، ولو وصلوا سن البلوغ.
وفي " فتاوى نور على الدرب " قال الشيخ العثيمين – رحمه الله -:
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد جعل الرجل راعياً في بيته، وأخبر أنه مسئولٌ عن رعيته، ولم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم هذا بسنٍّ دون سن، فما دام الرجل قادراً على رعاية بيته: فإن الواجب عليه رعايته، وهو مسئولٌ عن أهله.
انتهى
ثالثاًً:
هل يُسكت عن فعل الأولاد للمعاصي في البيت؟
وما يفعله الأولاد من منكرات في البيت: فإنه لا يُسكت عليه، بل يُنصح فاعله، ويُوجَّه لفعل الخير، ولا ينبغي للوالدين أن يعينا فاعل ذلك المنكر على فعله، كأن يعطوه من المال ما يشتري به ذلك المحرَّم، ولا أن يمكناه من فعله، ولهما السكوت عنه وعدم التصرف العملي حيال فاعله بالطرد: في حال أن يكون تصرفهما يسبب مفاسد أكثر وأكبر من تلك المعصية، فقد يسكت الوالدان على سماع الموسيقى، أو النظر المحرَّم، ويكون ذلك خشية التصرف العملي بالطرد والضرب الذي يؤدي إلى الإكثار من تلك المعاصي خارج نطاق البيت والأسرة، ومن المعلوم أنه من يُطرد من بيته فإنه سيتمكن من فعل ما لا يستطيع فعله في البيت، فتزداد المفاسد والمشكلات التي يسببها ذلك الولد العاصي العاق.
بل حتى لو لم يصل الأمر إلى الطرد والقطيعة أو الهجر، فإن كثيرا من الأبناء، إذا حرم من مشاهدة التلفاز، أو سماع الأغاني في البيت، ولم يكن قد هدى الله قلبه، وشرح صدره للالتزام بذلك، فإنه يتحيل إلى قضاء شهوته، وإشباع رغبته مع رفقة السوء، أو في أي مكان خارج البيت خارج البيت، وهنا يخلو له الجو بلا رقيب على تصرفاته، وهو أمر يوشك أن يفتح عليه أبوابا مضاعفة من الفساد.
فحينئذ؛ إذا عجز الوالد عن تقويم ولده، ومنعه من هذه المنكرات المعتادة في التلفاز وغيره، فإن المصلحة تقتضي أن يتغافل عن بعض ذلك من ولده، اتقاء لشر أكبر منه، يتوقع حصوله متى منع من ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
فإنَّ الأمرَ والنَّهيَ وإن كان مُتضمِّناً لتحصيلِ مصلحةٍ ودفعِ مَفْسدةٍ: فيُنظرُ في المُعَارضِ له، فإن كان الذي يَفُوتُ من المصالحِ أو يحصلُ من المَفاسدِ أكثر: لم يكن مأموراً به، بل يكون مُحرَّماً إذا كانت مفْسَدتُه أكثرُ من مصلحتِه.
" مجموع الفتاوى " (28/ 129).
وقد طبَّق شيخ الإسلام هذا الأمر عمليّاً، فقد قال:
مررتُ أنا وبعضُ أصحابي في زمنِ التتارِ بقومٍ منهم يشربون الخمرَ، فأنكرَ عليهم من كان معي، فأنكرتُ عليه، وقلتُ له: إنَّما حرَّمَ الله الخمرَ لأنَّها تصدُّ عن ذكرِ الله والصَّلاةِ، وهؤلاء يصدُّهم الخمرُ عن قتلِ النَّفُوسِ، وسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ، وأخذِ الأموالِ فدعهم.
نقله عنه ابن القيم في " إعلام الموقعين " (3/ 5).
وهكذا يقال في حال الأبناء والبنات، فإن طردهم خارج البيت لا شك أنه سيسبب فعلاً للمنكر أزيد مما كان عليه، وأشنع من الذي قبله، حيث تتوفر فرص فعل تلك المنكرات بعيداً عن رقابة البيت وأهله، فعلى الآباء تقدير هذا الأمر وإلا كانت خسارتهم فادحة.
رابعا:
أما بخصوص طرد المخالف منهم للشرع: فينبغي التنبه لأمرين اثنين:
الأول: التفريق بين الذكر والأنثى.
والثاني: طبيعة المخالفة وحجمها.
فليس كل معصية تستحق المفاصلة، وينبغي معرفة أن المعاصي منها ما هو من الكبائر، ومنها ما هو من الصغائر، وأن الكبائر درجات، وأن بعض المعاصي منها ما يتعدى فاعلها لغيره من الناس، ومنها ما لا يتعدى.
كما أنه ثمة فرقا بين كون الواقع في هذه المعاصي الابن الذكر، أو الابنة الأنثى، والذي ينبغي على الوالدين التنبه له وعدم إغفاله: أنه إن بلغ الشر بالابن ما بلغ، وتعدى شره، ووصل لدرجة لم تُعد تطاق: فإنه يمكن لهما طرده من البيت حفاظاً على باقي الأسرة، وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لهدايته وتقويم أمره، وأن الابنة الأنثى لا ينبغي طردها تحت أي ظرف من الظروف، ومهما بلغت معاصيها؛ فهي عرضهم، ويجب عليهم الحفاظ عليه، وحمايته من الذئاب البشرية التي تنتظر مثل هذه الفرائس.
والخلاصة في هذه النقطة:
أنه قد يصل الأمر في بعض الأحوال لأن يُطرد الابن من المنزل، ويقدَّر ذلك بحسب المصلحة والمفسدة، وأن الأنثى لا تُطرد مهما بلغت معاصيها.
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب
¥