تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الأبوّة النبوية .. د. حاتم الشريف

ـ[عبدالله العلي]ــــــــ[28 - 10 - 07, 09:21 م]ـ

الأبوّة النبوية

د. الشريف حاتم بن عارف العوني 16/ 10/1428

27/ 10/2007

تأملت ما صَحَّ في السُّنَنِ من حديث بُريدةَ بنِ الحُصَيب رضي الله عنه , أنه قال: خَطَبنا رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- , فأقبل الحَسَنُ والحُسَينُ رضي الله عنهما , عليهما قميصان أحمران , يَعْثُرانِ ويقومان. فنزل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- , فأخذهما , وصعد بهما إلى المنبر , ثم قال: «صدق الله "إنما أموالكم وأولادكم فتنه" [التغابن: 15] , رأيتُ هذين , فلم أصبر» , ثم أخذ في الخطبة.

عنوان هذا الحديث الناطق: هو العاطفة الأبوية الآسرة التي كانت تملأ فؤادَ رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.

ولكي تقف على بعض نواحي عظمة تلك الرحمة الأبوية في فؤاد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- , عليك أن تتأمّل المعاني الجليلة المُتَضَمَّنة في هذا الحديث:

فمن المعلوم أن لحظات الجِدِّ وأوقات الانهماك فيه من أبعد ساعات العمر عن العواطف , وخاصة العواطف المعتادة , كاستشعار الأبوّة , دونما سبب قاهر أو حادث غير معتاد.

ولك أن تستحضر خطيبًا من الخُطباء في أيامنا هذه , قام في جَمْعٍ غفيرٍ , مُلْقيًا خطبته , فالأنظار به متعلِّقة , والأسماعُ إليه مُصغية , وهو مستغرقٌ في جِدّ مواعظه البليغة التي تَهَمَّمَ لها, يحاول أن يستجمع لها قُواه الذهنية , وأن يستصحبها فؤادَه , فتفيضَ مشاعره بمعانيها , لينطلق لسانه في بيانها مترجمًا عمّا في جَنانِه , فتتكلّم بها جميعُ حواسّه: بنبرات الصوت المختلفة , وبإشارات اليد , والتفاتة الوجه , ونظرة العين , وحركة الحاجب .. انْهِمَاكًا منه في أداء هذا الواجب الكبير والشغل الجليل. هل سيجد بصره (فضلا عن قلبه) مكانا لنظرة أبوية في هذا الخضَمِّ الهائل من الشغل؟! هل يمكن أن يتسلّلَ إلى قلبه حينها أدنى شعورٍ بدلال الطفولة وهزلها الفطري؟! والحاصل أن الجِدَّ قد ملأ اُفُقَه , والمُهِمّات قد ملكت مشاعره!!

فإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم-: في عِظَمِ أعبائه , التي لم يُقاربها أحدٌ من العالمين؛ لأنها أعباءُ إصلاح البشرية وهدايتها .. إلى قيام الساعة!!! فهي أمانة تبليغ الرسالة الكاملة والخالدة , والتي أدّاها –صلى الله عليه وسلم- على أتمّ وجه , وأحسن طريقة.

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم-: في تمحُّضِ عبوديّته لربّه عزّ وجلّ , وسُمُوِّ تألُّهِهِ لإلهه سبحانه , وشديد وَجَلِه , وكبير رجائه , وكامل حُبّه .. لخالقه العظيم تعالى وتقدّس سبحانه.

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم-: في زُهده البالغ في الدنيا , وحقارة زينتها في قلبه أمام الآخرة , وتأخير أجلِّ ملاذّها عن أيِّ عملٍ يقربه من ربه عز وجل , والإعراض عن جميع مفاتنها في سبيل رضوان الله تعالى وجنته.

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم-: رئيسَ الدولة الإسلامية الناشئة , والتي يؤسسها –صلى الله عليه وسلم- لتكون الدولةَ الخالدة إلى قيام الساعة. وهو يؤسسها ويسير بها كسفينة في محيط هادرٍ من الأعداء , هم أهل الأرض كلهم حينها. فما أشقَّ كل مَهَمةٍ من هاتين المَهمّتين: تأسيس دولة فيها مقوّمات الخلود , وفي وسطٍ هائج من الأعداء!! فهي دولة تُنْشأ على غير مثالٍ سابقٍ .. فيُحتذى , وعلى أن لا يكون بعدها ما يفوق كيانَها المُرتجى , فهي نَمَطٌ فريد: لا قبله مثله , ولا يكون بعده مثله!!

وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم-: الذي كان مع قيامه بتلك المَهَمّة الخارقة , وهي تأسيس الدولة الفاضلة الخالدة , فهو المسؤول عن جميع شؤونها: من أجلّها .. إلى أدقِّها , فمن حروبها ومعاهدات سِلْمها وعلاقاتها الدولية التي تجاوزت حدود جزيرة العرب إلى أعظم إمبراطوريات العالم حينها , إلى شؤونها الداخلية , التي تصل إلى آخر التفاصيل وأضعف الدقائق: كحمل همّ الضعفاء , وسُقيا مواشي البدو , وحلّ نزاعات الخصوم في توافه الدنيا ... إلى آخر هذه القائمة التي ليس لها آخر!!!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير