ويعلو ذلك كله: أنهما نجلا سيد الأولين والآخرين , وقطعةُ قلبِه , وأخْذَةُ بصره , وفَيْضَةُ مشاعره! كم طار لهما قلبه , وكم تلهّفَ لرؤيتهما فؤاده , وكم نَعِمَ بضمِّهما إليه , وكم استنشق من طِيب نَفَسهما وهو يعانقهما , وكم قبّلهما حتى كان مَبْسَمُهما ما تلألأ إلا ذُكرَ تقبيلُ رسولِ الله –صلى الله عليه وسلم- لهما!! وكم أسعدا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بابتسامة , وكم أنسياه همًّا كان قد كَرَبَه , وكم تلذّذَ بمشاهدة لَهْوِهما وتقافُزهما وتصارعهما , وكم رأى فيهما فرحة الطفولة فآنساه بها في رجولته , وكم لاحت له مخايل البطولة في توثُّبهما فاعتزّ بذريته , وكم خفّفا عنه بخِفّةِ ظِلِّهما ومُزاحهما ثِقَلَ دعوته!!!
أوَلا يستحقُّ من ملأ قلب الحبيب –صلى الله عليه وسلم- بالسعادة أن يُحَبّ؟!
هذان هما الحسن والحسين رضي الله عنهما.
فإذا ما تجاوزنا حديثَ المشاعر , إلى حديث الشعائر والأحكام والفقه المستنبط من هذا الخبر: فأقف عند استشهاد النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى"فتنة".
فهل ما وقع من النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا الموقف الأبوي من الفتنة التي حذّرت الآيةُ منها؟
لا يمكن أن يكون هذا! وحاشاه –صلى الله عليه وسلم- من أن يفتنه عن رضوان ربه عز وجلّ شيءٌ! ثم ما الفتنة التي وقعت في هذا الموقف الأبوي الرائع؟! هل نقص بلاغه –صلى الله عليه وسلم-؟! هل فسد ما أصلحه –صلى الله عليه وسلم-؟! هل تعطّلت مصالح العباد؟! هل خربت البلاد؟! بل هل قطع –صلى الله عليه وسلم- خطبته بلا رجعة؟! كل ذلك لم يكن!! فأين هي الفتنة؟!!
كيف يمكن أن لا نفهم من هذا الموقف الأبوي الرائع إلا أنه أحد نماذج القدوة النبوية؟! وأنه أحد دلائل نبوته –صلى الله عليه وسلم- في خُلُقه العظيم وكمال بشريته التي كان –صلى الله عليه وسلم- بها أفضلَ الخَلْق وأحبَّهم إلى الله تعالى. ولذلك فهذا الموقف تشريعٌ , وليس فتنةً يُحَذَّرُ منها. تشريعٌ يُذكِّرُ أصحابَ الجِدّ والمسؤوليّات العِظام بأنه لا يصحُّ لهم أن يسمحوا لجِدّهم ولمسؤولياتهم بأن تقتل فيهم عواطفَهم , ولا أن تُغَيِّبها .. ولو للحظة .. ولو كانوا غارقين في أعماق الجِدّ؛ لأن عواطفهم هي طَوْقُ نجاتهم من الغرق في لُجّةِ جِدّهم. تلك اللجّة التي لو ابتلعتهم: لأفْقَدَتْهم إنسانيّتَهم , لتُلْقِيَهم بعد ذلك على ساحل الجفاف العاطفي وفي صحراء نُضوبِ المشاعر , آلةً بشريةً , لا تستطيع الحياة إلا مع الآلات , لأنها لم تَعُدْ تعرفُ أحاسيسَ بني البَشَر , فقراراتُ جِدّها أصبحت وبالاً عليها؛ لأنها قراراتٌ غابت عنها خاصيّةُ الإنسان؛ بسبب جِدٍّ عَزَبَتْ عنه المشاعر , وبسبب عقلٍ لم يلتفت إلى قلبه!!!
إن كانت هذه فتنة .. فَنِعِمّا هي من فتنة!!
إن تلاوة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لتلك الآية لا يعني أن ما وقع منه هو الفتنة التي حذرت منها , وليس ذلك بلازم من تلاوته –صلى الله عليه وسلم- لها؛ ولكنه –صلى الله عليه وسلم- أراد أن يُنبِّهَ إلى أن الفرق بين الحُنُوِّ الأبوي الذي لا ينبغي أن ينضُبَ والفتنةِ بالولد إلى حدّ شَلَلِ التفكير وتعطُّلِ عمل العقل = فرقٌ دقيقٌ جدّا , هو شَعْرةٌ تفصل بينهما!!
كما أنه –صلى الله عليه وسلم- لعظيم إجلاله لربه عز وجلّ , ولكمال معرفته به سبحانه , كان يُكثر أن يقول في دعائه: «يا مقلّب القلوب ثَبّت قلبي على دينك». فلا نستغرب من هذا القلب العظيم الوجل من تَغَيُّرِ الأحوال , ومن هذه النفس التي لم تثق بغير مولاها عز وجل , ولم ترَ لها حولا ولا قوةً إلا به سبحانه: أن تخشى من افتتانها بالولد , إن لم يحفظها خالقُها ومولاها!! فتلا –صلى الله عليه وسلم- تلك الآية مستشعرًا تمامَ حاجته إلى عناية الباري وحفظه , في أن يَقِيَهُ من فتنة الولد. وتلا –صلى الله عليه وسلم- تلك الآية لكي يُذكِّرَ نفسه بضرورة الوقوف بحبّه لحفيديه عند أعلى حدود الأبوّة الحانية , دون أول حدّ الافتتان , الذي يؤدّي إلى التقصير في حقّ أعظم محبوبٍ على الإطلاق , ألا وهو ربُّنا عزّ وجلّ!!
ما أعظمك يا رسول الله!! وما أعظم قلبك!!
(1) ( http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_*******.cfm?id=24&catid=202&artid=10602#2) لأحمد بن الصديق الغُماري كتابُ (شوارق الأنوار المنيفة بظهور النواجذ الشريفة) , جمع فيه أحاديث بُدُوِّ نواجذه الشريفة –صلى الله عليه وسلم
http://www.islamtoday.net/questions/show_articles_*******.cfm?id=24&catid=202&artid=10602
ـ[صالح العقل]ــــــــ[28 - 10 - 07, 09:42 م]ـ
أثابكم الله.