كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن غلظ حجابه وكثف طبعه وصلب عوده فهو عن فهم هذا بمعزل، بل لعله أن يفهم منه ما لا يليق به تعالى من حلول أو اتحاد، أَو يفهم منه غير المراد منه فيحرف معناه، ولفظه: {وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} * [النور: 40].
وقد ذكرت معنى الحديث والرد على من حرفه وغلط فيه فى كتاب ((التحفة المكية)).
وبالجملة فيبقى قلب العبد- الذى هذا شأْنه- عرشاً للمثل الأعلى أى عرشاً لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأْنه فياله من قلب من ربه ما أَدناه ومن قربه ما أحظاه، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه أو يطمئن بغيره، فهؤلاءِ قلوبهم قد قطعت الأكوان وسجدت تحت العرش وأبدانهم فى فرشهم كما قال أبو الدرداءِ: إذا نام العبد المؤمن عرج بروحه حتى تسجد تحت العرش، فإن كان طاهراً أذن لها فى السجود، وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود وهذا والله أعلم هو السر الذى لأجله ((أمر النبى صلى الله عليه وسلم الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ))، وهو إما واجب على أحد القولين، أو مؤكد الاستحباب على القول الآخر، فإن الوضوءَ يخفف حدث الجنابة ويجعله طاهراً من بعض الوجوه.
ولهذا روى الإمام أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم إذا كان أحدهم جنباً ثم أراد أن يجلس فى المسجد توضأ ثم جلس فيه، وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره، مع أن المساجد لا تحل لجنب، [فدل] على أن وضؤه رفع حكم الجنابة المطلقة الكاملة التى تمنع الجنب من الجلوس فى بيت الله وتمنع الروح من السجود بين يدى الله سبحانه.
فتأمل هذه المسألة وفقهها واعرف مقدار فقه الصحابة وعمق علومهم، فهل ترى أحداً من المتأخرين وصل إلى مبلغ هذا الفقه الذى خص الله به خيار عباده وهم أصحاب نبيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
فإذا استيقظ هذا القلب من منامه صعد إلى الله بهمه وحبه وأشواقه مشتاقاً إليه طالباً له محتاجاً [له] عاكفاً عليه، فحاله كحال المحب الذى غاب عن محبوبه الذى لا غنى له عنه ولا بد له منه، وضرورته إليه أعظم من ضرورته إلى النفس والطعام والشراب، فإذا نام غاب عنه فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه، وإلى الشوق الشديد [والحب] المقلق فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأولها عند استيقاظه كما قال بعض المحبين لمحبوبه:
وآخر شيء أنت فى كل هجعة وأول شيء أنت عند هبوبي
فقد أفصح هذا المحب عن حقيقة المحبة وشروطها، فإذا كان هذا فى محبة مخلوق لمخلوق فما الظن فى محبة المحبوب الأعلى، فأُف لقلب لا يصلح لهذا ولا يصدق به، لقد صرف عنه خير الدنيا والآخرة.
فصل
فإذا استيقظ أحدهم [وقد بدر] إلى قلبه هذا الشأْن فأَول ما يجرى على لسانه ذكر محبوبه والتوجه إِليه واستعطافه والتملق بين يديه والاستعانة به أَن لا يخلى بينه وبين نفسه وأَن لا يكله إليها فيكله إلى ضعة وعجز وذنب وخطيئة بل يكلأه كلاءَة الوليد الذى لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فأَول ما يبدأُ به الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أَماتنا وإليه النشور، متدبراً لمعناها من ذكر نعمة الله عليه بأَن أحياه بعد نومه الذى هو أخو الموت وأعاده إلى حاله سوياً سليماً محفوظاً مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات [المهلكات] والتى هو غرض وهدف لسهامها كلها تقصده بالهلاك أو الأذى والتى من بعضها [أرواح] شياطين الإنس والجن، فإِنها تلتقى بروحه إذا نام فتقصد إهلاكه وأذاه، فلولا أَن الله سبحانه يدفع عنه لما سلم.
هذا [وكم تتلقى] الروح فى تلك الغيبة من أَنواع الأَذى والمخاوف والمكاره والتفزيعات ومحاربة الأعداءِ والتشويش والتخبيط بسبب ملابستها لتلك الأَرواح، فمن الناس من يشعر [بذلك لرقة روحه ولطافتها ويجد اثار ذلك فيها] إذا استيقظ من الوحشة والخوف والفزع والوجع الروحى الذى ربما غلب حتى سرى إلى البدن، ومن الناس من تكون روحه أَغلظ وأكثف وأقسى من أن تشعر بذلك، فهى مثخنة بالجراح مزمنة بالأَمراض ولكن لنومها لا تحس بذلك.
¥