هذا، وكم من مريد لإهلاك جسمه من الهوام وغيرها، وقد حفظه منه فهى فى أحجارها محبوسة عنه لو خليت وطبعها لأهلكته، فمن ذا الذى كلأَه وحرسه وقد غاب عنه حسه وعلمه وسمعه وبصره، فلو جاءَه البلاءُ من أَى مكان جاءَ لم يشعر به، ولهذا ذكر سبحانه عباده هذه النعمة وعدها عليهم من جملة نعمه فقال: {مَن يَكْلأَكُمْ بِاللَّيْلِ وَالْنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} * [الأنبياء: 42].
فإذا تصور العبد ذلك فقال: ((الْحَمْدُ للهِ)) كان حمده أَبلغ وأَكمل من حمد الغافل عن ذلك، ثم تفكر فى أَن الذى أَعاده بعد هذه الإماتة حياً سليماً قادراً على أَن يعيده بعد موتته الكبرى حياً كما كان، ولهذا يقول بعدها: ((وَإِلَيْهِ الْنُّشُورُ))، ثم يقول: ((لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَالْحَمْدُ للهِ وسُبْحَانَ الله وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ)) ثم يدعو ويتضرع، ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحب لما فيه، ثم يصلى ما كتب الله [له] صلاة محب ناصح لمحبوبه متذلل منكسر بين يديه، لا صلاة مدل بها عليه يرى من أَعظم نعم محبوبه عليه أَن أَقامه وأَنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأهله وحرم غيره، فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته، ويرى أَن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره فى تلك الصلاة، فهو يتمنى طول ليله ويهتم بطلوع الفجر كما يتمنى المحب الفائز بوصول محبوبه ذلك، فهو كما قيل:
يود أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد القلب والبصر
فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه، العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه معطياً لكل آية حظها من العبودية، فتجذب قلبه وروحه إليه آيات المحبة والوداد، والآيات التى فيها الأَسماءُ والصفات، والآيات التى تعرف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإِحسانه إِليهم، وتطيب له السير آيات الرجاءِ والرحمة وسعة البر والمغفرة، فتكون له بمنزلة الحادى الذى يطيب له السير ويهونه [عليه]، وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإِحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره المائلين إلى سواه، فيجمعه عليه ويمنعه أن يشرد قلبه عنه.
فتأَمل هذه الثلاثة وتفقه فيها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبالجملة فيشاهد المتكلم سبحانه وقد تجلى فى كلامه ويعطى كل آية حظها من عبودية قلبه الخاصة الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها، ثم شأْن آخر لو فطن له العبد لعلم أَنه كان قبل يلعب، كما قيل:
وكنت أَرى أن قد تناهى بى الهوى إِلى غاية ما بعدها لى مذهب
فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت أَنى إِنما كنت أَلعب
فوا أَسفاه وواحسرتاه، كيف ينقضى الزمان وينفد العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إِليها وما ذاق أَطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً وموته كمداً ومعاده حسرة وأسفاً.
اللَّهم [ولك] الحمد وإليك المستشكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
فصل
فإِذا صلى ما كتب الله جلس مطرقاً بين يدى ربه [تعالى] هيبة له وإِجلالاً، واستغفره استغفار من قد تيقن أَنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه.
فإذا قضى من الاستغفار وطرا وكان عليه بعد ليل اضطجع على شقه الأَيمن مجماً نفسه مريحاً لها مقوياً على أَداءِ وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطاً بجده وهمته كأنه لم يزل طول ليلته لم يعمل شيئاً، فهو يريد أَن يستدرك ما فاته فى صلاة الفجر، فيصلى السُّنَّة ويبتهل إلى الله بينها وبين الفريضة، فإِن لذلك الوقت شأْناً يعرفه من عرفه، ويكثر فيه من قول: ((يَا حَى، يَا قَيُّوم، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ)) فلهذا الذكر فى هذا الموطن تأثير عجيب، ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصداً الصف الأول عن يمين الإِمام أو خلف قفاه، فإِن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن فإِن للقرب من الإِمام تأثيراً فى سر الصلاة، ولهذا القرب تأْثير فى صلاة الفجر خاصة يعرفه من عرف قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْر كَانَ مَشْهُوداً} * [الإسراء: 78].
¥