وسنوضح إن شاء الله تعالى حجج الطرفين، ونبين ما هو الصواب في ذلك.
اعلم وفقنا الله وإياك أن العقل: نور روحاني تدرك به النفس العلوم النظرية والضرورية، وأن من خلقه وأبرزه من العدم إلى الوجود، وزين به العقلاء وأكرمهم به أعلم بمكانه الذي جعله فيه من جملة الفلاسفة الكفرة الخالية قلوبهم من نور سماوي وتعليم إلهي، وليس أحد بعد الله أعلم بمكان العقل من النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال في حقه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. {النجم:3 - 4}. وقال تعالى عن نفسه: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ. {البقرة: من الآية140}.
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كل منها التصريح بكثرة بأن محل العقل القلب, وكثرة ذلك وتكراره في الوحيين: لا يترك احتمالا ولا شكا في ذلك, وكل نظر عقلي صحيح يستحيل أن يخالف الوحي الصريح, وسنذكر طرفا من الآيات الدالة على ذلك، وطرفا من الأحاديث النبوية, ثم نبين حجة من خالف الوحي من الفلاسفة ومن تبعهم، ونوضح الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى.
وهذه بعض نصوص الوحيين:
قال الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا. {لأعراف: من الآية179} فعابهم الله بأنهم لا يفقهون بقلوبهم؛ والفقه هو: الفهم، والفهم لا يكون إلا بالعقل, فدل ذلك على: أن القلب محل العقل. ولو كان الأمر كما زعم الفلاسفة لقال: لهم أدمغة لا يفقهون بها.
قال الله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. {الحج:46} ولم يقل: فتكون لهم أدمغة يعقلون بها. ولم يقل: ولكن تعمى الأدمغة التي في الرؤوس. كما ترى، فقد صرح في آية الحج هذه بأن: القلوب هي التي يعقل بها، وما ذلك إلا لأنها محل العقل كما ترى. ثم أكد ذلك تأكيدا لا يترك شبهة ولا لبسا؛ فقال تعالى: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. فتأمل قوله تعالى: الَّتِي فِي الصُّدُورِ. تفهم ما فيه من التأكيد والإيضاح، ومعناه: أن القلوب التي في الصدور هي التي تعمى إذا سلب الله منها نور العقل، فلا تميز بعد عماها بين الحق والباطل، ولا بين الحسن والقبيح، ولا بين النافع والضار، وهو صريح بأن الذي يميز به كل ذلك هو العقل ومحله في القلب.
وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. {محمد:24}. ولم يقل: أم على أدمغتهم أقفالها. وانظر ما أصرح الآية هذه في أن التدبر وإدراك المعاني به إنما هو القلب، ولو جعل على القلب قفل لم يحصل الإدراك؛ فتبين: أن الدماغ ليس هو محل الإدراك كما ترى ... .
ثم ذكر عددا كبيرا من الآيات وبين دلالتها كما سبق ثم قال رحمه الله:
وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرناها والدالة على أن محل العقل القلب فهي كثيرة جدا:
كالحديث الصحيح والذي فيه: أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ. ولم يقل فيه: ألا وهي الدماغ.
وكقول أنس رضي الله: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. قَالَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا. ولم يقل: يا مقلب الأدمغة ثبت دماغي على دينك ....
والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا فلا نطيل بها الكلام.
الخلاصة: وقد تبين مما ذكرنا أن خالق العقل وواهبه للإنسان بين في آيات قرآنية كثيرة أن محل العقل القلب, وخالقه أعلم بمكانه، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما رأيت.
¥