وهذا مبني على قاعدة تربوية تعليمية مقررة عند السلف، وهي إلا يعرض على الناس من مسائل العلم إلا ما تبلغه عقولهم.
قال الإمام البخاري رحمه الله: ((باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا)). وقال علي رضي الله عنه: ((حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله)).
وقال الحافظ في الفتح تعليقا على ذلك: ((وفيه دليل على ان المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة. ومثله قول ابن مسعود: (ما أنت محدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة). (رواه مسلم).
وممن كره التحدث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرئب. .
))، إلى أن قال: ((وضابط ذلك ان يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراده، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم. (صحيح البخاري 1/ 41، الفتح 1/ 199 - 200، وراجع ايضا كلاما جيدا للسلمي في كتابةالتاريخ 228).
ثانيا: إذا دعت الحاجة إلى ذكر ما شجر بينهم، فلابد من التحقيق والتثبت في الروايات المذكورة حول الفتن بين الصحابة، قال عز وجل: {يا ايها الذين امنوا إن جاءكم فاسق بنبئأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}. وهذه الآية تأمر المؤمنين بالتثبت في الأخبار المنقولة إليهم عن طريق الفساق، لكيلا يحكموا بموجبها على الناس فيندموا.
فوجوب التثبت والتحقيق فيما نقل عن الصحابة، وهم سادة المؤمنين أولى وأحرى، خصوصا ونحن نعلم أن هذه الروايات دخلها الكذب والتحريف، أما من جهة اصل الرواية أو تحريف بالزيادة والنقص يخرج الرواية مخرج الذم والطعن.
وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب، يرويها الكذابون المعروفون بالكذب، مثل ابي مخنف لوط بن يحيى، ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأمثالهما. (منهاج السنة 5/ 72، وانظر دراسة نقدية " مرويات ابي مخنف في تاريخ الطبري / عصر الراشدين، ليحيى اليحيى).
من أجل ذلك لا يجوز ان يدفع النقل المتواتر في محاسن الصحابة وفضائلهم بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف، وبعضها يقدح فيما علم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن تيقنا ما ثبت في فضائلهم، فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها، فكيف إذا علم بطلانها. (منهاج السنة 6/ 305).
ثالثا: إذا صحت الرواية في ميزان الجرح والتعديل، وكان ظاهرها القدح، فليلتمس لها أحسن المخارج والمحاذير.
قال ابن أبي زيد: ((والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج، ويظن بهم أحسن المذاهب)). (مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وانظر تنويرا لمقالة حل إلفاظ الرسالة للتتائي).
وقال ابن دقيق العيد: ((وما نقل عنهم فيما شجر بينهم واختلفوا فيه، فمنه ما هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحا أولناه تأويلا حسنا، لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق محتمل للتأويل، والمشكوك والموهوم لا يبطل الملحق المعلوم)). (أصحاب رسول الله ومذاهب الناس فيهم لعبد العزيز العجلان ص360).
هذا بالنسبة لعموم ما روي في قدحهم.
رابعا: أما ما روي على الخصوص فيما شجر بينهم، وثبت في ميزان النقد العلمي، فهم فيه مجتهدون، وذلك ان القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة اقسام:
القسم الأول: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه، فيما اعتقدوه، ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
القسم الثاني: عكس هؤلاء، ظهر لهم بالاجتهاد إن الحق مع الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.
القسم الثالث: اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح احد الطرفين، فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لإنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك. (مسلم بشرح النووي 15/ 149، 18/ 11، وراجع الإصابة 2/ 501، فتح الباري 13/ 34).
¥