وبدأنا في الكلام عن علة الربا، وقلنا إن هذه المسألة من أهم مباحث الربا، وذكرنا أن الظاهرية حصروا الربا في الأصناف الستة المذكورة في حديث عبادة، وهي الذهب، والفضة، والتمر، والبر، والشعير، والملح، ولكن جمهو ر علماء الأمة قالوا إن الربا لا ينحصر في هذه الستة، بل يجري في هذه الستة وما شاركها في العلة، فما هي إذًا علة الربا؟ القول الصحيح الذي لا شك فيه هو قول الجمهو ر، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما ذكر هذه الأشياء الستة على سبيل المثال، وفي ذلك إشارة إلى أن الربا يجري في ما شاركها في معناها وفي علتها، فإذًا ما هي علة الربا؟ اختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا، والمؤلف ـ رحمه الله ـ قال (ولا يجوز بيع مطعومٍ ـ مكيل أو موزونٍ ـ بجنسه إلا مثلا بمثل)، اختار المؤلف أن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن، وقد رجح هذا في كتابه الكبير "المغني" أنها الطعم مع الكيل أو الوزن، وهذا في غير الذهب والفضة، وأما الذهب والفضة فأيضا اختُلف في العلة فيهما، ولكن الذي عليه أكثر المحققين أن العلة هي مطلق ثمنية، ومن العلماء من قال إن العلة هي الكيل والوزن مطلقًا في الذهب والفضة وغيره، وهذا هو المشهو ر من مذهب الحنابلة، ومنهم من قال إن العلة هي الطعم، ومنهم من قال هي الاقتيات والادخار، ولكن القول الصحيح في هذه المسألة هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ أن العلة في الربا في الذهب والفضة هي مطلق ثمنية، وفي غيرهما الطعم مع الكيل أو الوزن.
أما بالنسبة للذهب والفضة فالعلة فيهما مطلق ثمنية، لأن الذهب والفضة بهما تقوم الأشياء، وهما قِوام الأشياء، والوصف بالثمنية وصف مناسب، لأنه وصف شرف يصلح التعليل به هنا في الذهب والفضة، فالذهب والفضة من قديم الزمان، والناس يتعاملون بهما في تقدير الأشياء، والدنانير تضرب من الذهب والدراهم تضرب من الفضة، فبهما قوام الأشياء، ولذلك فإن العلة في الذهب والفضة هي مطلق الثمنية، وأيضا ما شاركها في معناها مثل الأوراق النقدية في الوقت الحاضر، فإن الأوراق النقدية أو ل ما برزت اختلف العلماء فيها اختلافا كثيرًا، ولكن استقر الأمر في السنوات الأخيرة، استقر رأي المجامع الفقهية والهيئات العلمية على أن الأوراق النقدية تعتبر نقدًا قائما بذاته، وأن العلة فيها مطلق الثمنية، وأن قيام النقدية فيها كقيام النقدية في الذهب والفضة، فبهذا تكون العلة فيها هي العلة في الذهب والفضة وهي مطلق الثمنية، فيجري الربا على ذلك في الأوراق النقدية.
وأما غير الذهب والفضة في الأوراق النقدية فالقول الصحيح فيها هو ما مشى عليه المؤلف واختاره في المغني، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا، والذي عليه أيضًا كثير من المحققين من العلماء المعاصرين في الوقت الحاضر، وهو أن العلة هو الطعم مع الوزن أو الكيل، الطعم أن يكون الشيء طعاما، مع الكيل أو الوزن.
إذًا فما الدليل لهذا؟ ما الدليل لهذا القول، وهو أن العلة الطعم مع الكيل أو الوزن؟
نقول أن الدليل لذلك ما ذكره الموفق في المغني هو حديث مَعْمَر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال (الطعام بالطعام مثلا بمثل)، هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، وهنا نص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على العلة، وهي الطُعم فقال (الطعام بالطعام)، ولا شك أن هذا تفسير من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا المعني وهي العلة، فهنا ذكر الطعام، في حديث عبادة ذكر هذه الأشياء الستة، دل ذلك على أن المقصود بالأشياء الأربعة من غير الذهب والفضة هي أن تكون طعامًا، فهذا ما يتعلق بمسألة الطعم، مأخوذة من الحديث (الطعام بالطعام).
وقوله (مثلا بمثل) يعني لابد من التماثل، والتماثل لا يكون إلا بالمعيار الشرعي، والمعيار الشرعي هو الكيل أو الوزن، فتكون أيضًا الكيل أو الوزن مأخوذة من الحديث وقوله (مثلا بمثل).
إذًا القول الراجح في علة الربا في غير الذهب والفضة أنها الطعم مع الكيل أو الوزن، الطعم الدليل له قول الطعام بالطعام، والكيل أو الوزن الدليل له قوله (مثلا بمثل).
هذا هو أرجح ما قيل في هذه المسألة، وبناءً على ذلك ما اجتمع فيه الطعم مع الكيل أو الوزن فإنه يجري فيه الربا، وذلك كالتمر والبر والشعير، وهذه مذكورة في الحديث، أيضا الأرز مثلا، الأرز مكيل وأيضًا مطعوم فيجري فيه الربا،
واستطرد الشيخ بعد مناقشة للطلاب:
المقصود أنه هناك بعض الأشياء مكيلة وبعضها موزون، فما اجتمع فيه علة الوزن أو الكيل مع الطعم فيجري فيه الربا، وما لا فلا، فقلنا إذًا الربا يجري في الأرز، يجري الربا في الذرة، يجري الربا في الزبيب، يجري الربا في التين، هذه كلها يجري فيها الربا باعتبار أنه يُجفف ويكون طعاما، ويجري الربا في الزيتون، يجري الربا في اللحم، لأن هذه تنطبق عليها العلة وهي الطعم أو الكيل أو الوزن.
نعود لما طرحناه من قبل وهو مثلا هل يجري الربا في بيع السيارات؟ بيع سيارة بسيارة هل يجري فيها الربا؟
هذه أشياء الغير مطعومة لا يجري فيها الربا، بناءً على ذلك السيارات ليست مطعومة ولا حتى مكيلة ولا موزونة أيضا، فلا يجري فيها الربا.، بيع قلمًا بقلمين؟، لا يجري فيها ربا، لماذا؟
بيع الهاتف المحمول باثنين، يجري فيها الربا؟
بيع كتاب بكتابين؟ لا يجري فيه الربا لأنه ليست مطعومًا، الأشياء الغير مطعومة لا يجري فيها الربا.
- منقول من محاضرة مفرغة لاحد دروس الشيخ فى شرح عمدة الفقه
¥