وهو إذن إلهي تسخيري أيضاً حتى تسلك الطرق التي جعلها لها الله تبارك وتعالى مذللة مسهلة في الأجواء الواسعة والبراري الشاسعة، والأودية والجبال الشاهقة، ثم لتعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة
فالطرق التي تسلكها النحل على هذا التفسير هي المذللة الميسرة.
وقال قوم من أهل التفسير:
معناها فاسلكي الطرق وأنت مذللة مطيعة، لأن الذلول هو الذي يقاد ويذهب به حيث أراد صاحبه. والنحل يخرجون ويذهبون بها وهي تتبعهم.
3 - الشراب الخارج من بطونها:
جاء التوصيف القرآني بعد ذكره تعالى لمضمون الوحي مبيناً آثار ذلك الوحي ونتائجَه العملية، فقد اتخذت النحل البيوت امتثالاً لذلك لأمر، وأكلت من كل الثمرات امتثالاً، وسلكت سبل ربها امتثالاً فكان بعد ذلك أنه:
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ
وقال (شراب) لأن العسل داخل عند العرب في الأشربة.
يقول الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه:
لقد سقيت النبي صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشرابَ كله العسل والماء واللبن.
وهو يخرج – كما يقرر القرآن الكريم من بطون النحل.
وقدّم عند ذكره لذلك الشراب توصيفه وتوظيفه
أما التوصيف فقال فيه:
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
بين الأبيض والأصفر والأحمر وغيره من الألوان الحسنة على اختلاف المراعي والمآكل.
وأما التوظيف فعبر عنه بقوله:
فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ
وكان النبي صلى الله عليه وسلم الإمامَ الموجه إلى تحقيق ذلك التوظيف:
فقد جاء إليه رجل فقال إن أخي استطلق بطنه فقال:
"اسقه عسلا"
فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال:
"اذهب فاسقه عسلا"
فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا"
فذهب فسقاه عسلا فبرئ.
حقيقة مستمدٌّ علمُها من وحي السماء لا بد أنها محققة في الواقع، وتأخر ظهورها في الواقع – بحسب المظنون – لا يغير من كونها حقاً ثابتاً في نفسه.
ومن الذي جزم بالتأخر، بل ومن الذي حدد مدة الشفاء، إن وحي السماء قرر تحقق الشفاء، ولم يبين مدته، وتوهم ذلك الرجل التأخر، لجهله زمنَ ظهور الشفاء بحسب العادة الكونية والقوانين السببية التي خلقها الله تبارك وتعالى في عوالم مخلوقاته.
وما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: وكذب بطن أخيك؟
إن الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو، قصداً كان ذلك الإخبار أو من غير قصد.
ولما كان بقاء الاستطلاق مع وجود الدواء خبراً عملياً أوهم عدم تحقق الشفاء؛ والواقع أن البطن صار في طريقه إلى الشفاء، جاز في هذه الحالة أن يوصف البطن بالكذب، لأن خبره العملي أوهم خلاف الواقع.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالتوجيه إلى سقاية المريض العسل، فأرسل إلى المريض عسلاً، وهو أبلغ في التأكيد:
يقول الصحابي عامر بن مالك: بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وعك كان بي ألتمس منه دواء وشفاء، فبعث إلي بعكة من عسل.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم العسل مع غيره من العقاقير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام"
.قيل يا رسول الله وما السام؟ قال "الموت"
والسِنَّوْت: لغة في العسل.
وذكر صلى الله عليه وسلم العسل نائباً عن العقاقير في أسباب الشفاء، ثم ذكر غيره من وسائل المداواة والمعالجة.
وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهي أمتي عن الكي.
وعدَّ صلى الله عليه وسلم نوعين من الشفاء وأمر بهما فقال:
"عليكم بالشفاءين العسل والقرآن".
ولعل المتأمل في الحديث يدرك أن أحدهما شفاءٌ للجسم – وهو العسل –وأن الآخر شفاءٌ للنفس وهو القرآن الكريم.
ويظهر في البحث سؤال متعلق بالشفاء الذي في العسل أهو الشفاء من كل داء، أم أنه شفاء من بعض الأدواء وأنه لا ينبغي استعماله لكل داء؟
والتصريح بأنه شفاء من كل داء لم يرد إلا في حديث (السنوت)، وقد وجدت مرادفات لغوية للسنوت في غير العسل جعلت الدلالة اللغوية ظنية في هذا الحديث.
¥