لا يتم الإيمان بالقدر إلا بتحقيق أربع مراتب هي: العلم والكتابة و المشيئة والخلق , فأما العلم فهو أن تؤمن بأن الله سبحانه و تعالى علم كل شي جملة وتفصيلا , فعلم ما كان , وما يكون , فكل شيء معلوم لله تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الحج70 ,وأما الكتابة فهو الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ قال تعالى (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء) الأنعام38 ,وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) مسلم , وأما المشيئة فذلك بأن تؤمن بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، سواء كانت مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعل المخلوقين قال تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) التكوير29 , وأما الخلق فهو أن تؤمن بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها، وصفاتها، وحركاتها , فيجب أن نؤمن بأن (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) الزمر62 , وأن (اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) الصافات96 , قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله يصنع كل صانع وصنعته) البخاري.
باب في احتجاج بعض الناس بالقدر
س37) هل يفهم من الإيمان بالقدر أن الإنسان مجبور؟
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر) صححه الألباني , ليس فيه ما يفيد أن الإنسان مجبور على أعماله الاختيارية , ما دام أنه حكم عليه منذ القدم وقبل أن يخلق بالجنة أو النار , وليس فيه أيضاً أن الأمر فوضى أو حظ , فمن وقع في القبضة اليمنى , كان من أهل السعادة , ومن كان من القبضة الأخرى , كان من أهل الشقاوة , فيجب أن يعلم أن الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى11 , لا في ذاته , ولا في صفاته , فإذا قبض قبضة , فهي بعلمه وعدله وحكمته , فهو تعالى قبض بالأولى على من علم أنه سيطيعه حين يؤمر بطاعته , وقبض بالأخرى على من سبق في علمه تعالى أنه سيعصيه حين يؤمر بطاعته , ويستحيل على عدل الله تعالى أن يقبض بالأولى على من هو مستحق أن يكون من أهل القبضة الأخرى , والعكس بالعكس , كيف والله عز وجل يقول (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم 35 - 36 , ثم إن كلاً من القبضتين ليس فيها إجبار لأصحابهما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار , بل هو حكم من الله تبارك وتعالى عليهم بما سيصدر منهم , من إيمان يستلزم الجنة , أو كفر يقتضي النار والعياذ بالله تعالى منها , وكل من الإيمان أو الكفر أمران اختياريان , لا يكره الله تبارك وتعالى أحداً من خلقه على واحد منهما (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) الكهف 29 , وهذا مشاهد معلوم بالضرورة , ولولا ذلك , لكان الثواب والعقاب عبثاً , والله منزه عن ذلك , وعليه فنقول لمن يحتج بالقدر ليس عندك علم أنك من أصحاب الجنة أو النار، ولو كان عندك علم لما أمرك الله تعالى ولا نهاك، ولكن اعمل وعسى الله أن يوفقك لأن تكون من أصحاب الجنة.
باب في وجوب الأخذ بالأسباب
س38) هل الأخذ بالأسباب ينافي الإيمان بالقدر؟
الأخذ بالأسباب لا ينافي القدر والتوكل بل هو جزء منه، ولكن إذا وقع القدر وجب الرضا به والتسليم له، ويلجأ إلى قوله: " قدّر الله وما شاء فعل " وأما قبل أن يقع فإن سبيل المكلف هو الأخذ بالأسباب المشروعة ومدافعة الأقدار بالأقدار قال تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الأنفال60 , عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ شَيْئًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ الْأَرْضَ فَقَالَ (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ
¥