وقد دلت هذه الآثار على جواز القصر في أقل من المسافة التي دل عليها الحديث , وذلك من فقه الصحابة رضي الله عنهم , فإن السفر مطلق في كتاب الله والسنة , لم يقيد بمسافة محدودة , كقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) النساء 101 , وحينئذ , فلا تعارض بين الحديث وهذه الآثار , لأنه لم ينف جواز القصر في أقل من المسافة المذكورة فيه , ولذلك قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد: (ولم يحدَّ صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مُطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمم في كل سفر، وأما ما يُروى عنه من التحديد باليوم، أو اليومين، أو الثلاثة، فلم يصح عنه منها شيء البتة، واللّه أعلم).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع , فالمرجع فيه إلى العرف , فما كان سفراً في عرف الناس , فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم).
وقد اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة اختلافاً كثيراً جداً , على نحو عشرين قولاً , وما ذكرناه عن ابن تيمية وابن القيم أقربها إلى الصواب , وأليق بيسر الإسلام فإن تكليف الناس بالقصر في سفر محدود بيوم أو بثلاثة أيام وغيرها من التحديدات , يستلزم تكليفهم بمعرفة مسافات الطرق التي قد يطرقونها , وهذ مما لا يستطيعه أكثر الناس , لا سيما إذا كانت مما لم تطرق من قبل.
وفي الحديث فائدة أخرى , وهي أن القصر مبدؤه من بعد الخروج من البلدة , وهو مذهب الجمهور من العلماء كما في نيل الأوطار قال: (وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله ومنهم من قال إذا ركب قصر إن شاء. ورجح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت واختلفوا فيما قبل ذلك فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أن له القصر) , قال: (ولا أعلم أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قصر في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة).
قلت: والأحاديث في هذا المعنى كثيرة , وقد خرجت طائفة منها في الإرواء من حديث أنس وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم.
المصدر: منتدى فتاوى وابحات الامام الالباني رحمه الله.
الرابط: http://www.ajurry.com/vb/showthread.php?t=2838