(فتح الباري) جـ 7 صـ 6.
ولم يكن التمذهب معروفاً ولا معمولاً به في القرون الثلاثة المفضّلة، وإنما حدث بعد ذلك، ولو كان خيراً لعمل به أهل هذه القرون الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية، فهو من البدع المحدثة بلاشك، ذكر هذا ابن حزم رحمه الله في (الإحكام) جـ 6 صـ 146.
قال ابن القيم رحمه الله (وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئاً، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئا. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم) (اعلام الموقعين) جـ 2 صـ 189.
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله (وأما نوع التقليد الذي خالف فيه المتأخرون الصحابة وغيرهم من القرون المشهود لهم بالخير، فهو تقليد رجل واحد معين دون غيره، من جميع العلماء. فإن هذا النوع من التقليد، لم يرد به نص من كتاب ولاسنة، ولم يقل به أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير.
وهو مخالف لأقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله. فلم يقل أحد منهم بالجمود على قول رجل واحد معين دون غيره، من جميع علماء المسلمين.
فتقليد العالم المعين من بدع القرن الرابع، ومن يدعي خلاف ذلك، فليعين لنا رجلا واحداً من القرون الثلاثة الأول، التزم مذهب رجل واحد معين ولن يستطيع ذلك أبداً، لأنه لم يقع البتة) (أضواء البيان) جـ 7 صـ 488 ــ 489.
قال ابن القيم رحمه الله (هل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟، فيه مذهبان:
أحدهما: لايلزمه، وهو الصواب المقطوع به، إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد ٍ من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة أهلها من هذه النسبة، بل لايصح للعامي مذهب ولو تمذهب به، فالعامي لامذهب له، لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال، ويكون بصيراً بالمذاهب على حَسَبه، أو لمن قرأ كتاباً في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوي إمامه وأقواله، وأما مَنْ لم يتأهل لذلك البتة بل قال: أنا شافعي، أو حنبلي، أو غير ذلك، لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه، أو نحوي، أو كاتب، لم يصر كذلك بمجرد قوله.
يوضحه أن القائل إنه شافعي أو مالكي أو حنفي يزعم أنه متبع لذلك الإمام، سالك طريقه، وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال، فأما مع جهله وبعده جداً عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوي المجردة والقول الفارغ من كل معنى؟ والعامي لايتصور أن يصح له مذهب، ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره، ولا يلزم أحداً قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدعُ أقوال غيره.
وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة، لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام، وهم أعلى رتبة وأجل قدراً وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة.
فيالله العجب! ماتت مذاهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر أئمة الإسلام، وبطلت جملة إلا مذاهب أربعة أنفس ٍ فقط من بين سائر الأئمة والفقهاء، وهل قال ذلك أحد من الأئمة أو دعا إليه أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه؟ والذي أوجبه الله تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابيعهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة، لايختلف الواجب ولايتبدل، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال فذلك أيضا تابع لما أوجبه الله ورسوله، ومن صحح للعامي مذهبا قال: هو قد اعتقد أن هذا المذهب الذي انتسب إليه هو الحق، فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، وهذا الذي قاله هؤلاء لو صح للزم منه تحريم استفتاء أهل غير المذهب الذي انتسب إليه، وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه أو أرجح منه، أو غير ذلك من اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها، بل يلزم منه أنه إذا رأي نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النصَّ وأقوال الصحابة ويُقَدِّم عليها قول من انتسب إليه.
وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، ولايجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة ــ إلى أن قال: ــ
ولكن ليس له أن يتبع رخص المذاهب وأخْذُ غرضه من أي مذهب وجده فيه، بل عليه اتباع الحق بحسب الإمكان) أهـ (اعلام الموقعين) جـ 4 صـ 261 ــ 264.
¥