نام إبراهيم وزوجته وصغاره تلك الليلة قريري الأعين، هانئين مطمئنين ..
وفي صباح ذلكَ اليوم سمعَ إبراهيمُ منادياً يسألُ عنه، فخرجَ من منزلِه يستطلعُ الخبر ..
رأى رجلاً تتبعهُ جمالٌ محملة بالبضائع، يسألُ عنه ..
فعرّفه بنفسه، فتهلل وجه الرجل .. وقال له: يا إبراهيم .. منذُ مدة وأنا أبحثُ عنك .. هذان الجملان بما عليهما من مال وطعام ملكٌ لك ..
تبسّم إبراهيم وقال للرجل: ومن أينَ لي ذلك؟
قال: أنفذهما لك رجلٌ من خراسان ..
احتار إبراهيم وقال للحمال: ومن يكونُ هذا الرجل؟
قال الحمال: لقد استحلفني أن لا أقولَ منْ هو ..
أخذ إبراهيم الجملين، وشكر الحمال، واستضافه، إلا أنّه أبى، وتعلل بكثرة الأشغال، وعدم الفراغ ..
رجعَ إبراهيم إلى منزله فرحاً لهذا الرزق الذي ساقه الله إليه بغير حساب ..
ورأته امرأته ففرحت فرحاً شديداً .. واستبشرَ صغارُه، وسعدُوا بهذا العطاء السخيّ من ذلكَ الرجل المجهول ..
وعاش إبراهيم وعائلتُه فترةً من الزمن في رخاء وبحبوحة ..
جلسَ يوماً مع بعْض أصدقائه على طعامٍ طيّب شهي، فتأمله وتذكّر ما كان عليه من قلة ذات اليد، والبُعد عن الرفاه ..
نظرَ إلى أصْحابه وقال: ما كُنّا نعرفُ منْ هذه الأطبخة شيئاً ... كنتُ أجيءُ من عشيٍّ إلى عشيٍّ، وقد هيّأت لي أمّي باذنجانة مشويّة، أو لعقة إدام، أو باقة فجل ...
ومعَ حصولِه على المال الوفير، إلا أنّهُ لمْ يكُن يهتمّ بطعام أو شراب، بل زادهُ ذلك تقشّفاً، حتى قالَ لأصحابه ذات مرّة: ما تروّحتُ ولا رُوّحتُ قطّ، ولا أكلْت من شيءٍ في يومٍ مرتين ...
وجعلَ إبراهيم يتصدق من مالهِ كلّ يوم حتى أفناه ..
وعادت حالُهُ كما كانت عليه من التقشف والزهد والبعد عن البذخ ...
ولم يزلْ طَلاّبة للعلْم طيلة حياته ..
ولمّا كبر اعتلّ علّة أشرفَ معها على الموت ..
زارهُ أصدقاؤهُ من العلماء، وتلامذتهُ من طُلاب العلم ..
نظرَ إلى صاحبِه أبي القَاسم بن الجبلي فقال: يا أبا القاسم، أنا في أمرٍ عظيم مع ابنتي، ثُمّ ناداها، وقالَ لها: تعالي إلى عمّك .. فخرجتْ وعلى وجهها خمار ..
فقالَ لها: هذا عمّك كلميه ..
قالت بنفسٍ كسيرة: يا عم .. نحنُ في أمرٍ عظيم .. !! تمر علينا الليالي وما لنا طعامٌ إلا كِسَرٌ يابسة وملح، وربما عدمنا الملح!! وبالأمس قد وجّه إليه الخليفة المعتضد مع رسوله بدر ألف دينار فلم يأخذها!! وقال له: رُدّها إلى من أخذتها منه ... مع أننا بحاجة إلى فلس .. ووجّه إليه عددٌ من أصحابه فلمْ يأخُذ منهم شيئاً .. وهو كما ترى عليل ..
التفتَ إليها أبوها إبراهيم، فتبسّم لها وقال: يا بنيّة .. أخفتِ الفقر؟
قالت: نعم ..
قالَ لها: انظري إلى تلك الزاوية ..
نظرت إليها، فإذا هو يشيرُ إلى كتبه المتراكمة ..
قال: في هذه الزاوية اثنا عشر ألف جزء في اللغة والغريب، كتبتها بخطّي، فإذا متّ فوجّهي كل يوم بجزء تبيعينه بدرهم، فمن كان عنده اثنا عشر ألف درهم فليس هو بفقير ..
بكت ابنته، وتركته ودخلت المنزل ..
نظرَ إلى من حَولَه، ثمّ قال: منْ تعدّونَ الغريب فيكُم؟
قال رجل: الغريبُ منْ نأى عن وطنهِ يا أبا إسحاق!
وقال آخر: الغريبُ من فارقَ أحْبابَه!
ابتسم إبراهيم وقال: الغريبُ في زماننا، رجلٌ صالحٌ عاشَ بينَ قومٍ صالحين، إنْ أمرَ بمعروف آزروه، وإن نهى عن منكرٍ أعانوه، وإن احتاج إلى سبب من الدنيا آتوه إياه، ثم ماتوا وتركوه ..
نظرَ بعضهم إلى بعض وقد أدركوا أنّه يعني نفسه، وأنّه اشتاق إلى إخوانه الذين سبقوه ..
تأملهم بعينيه كمن ينظر إليهم نظرة الوداع ..
رفع سبابته، ونطق بالشّهادتين ...
ـ[سالم الشمري]ــــــــ[09 - 01 - 08, 09:44 ص]ـ
نشكر الأخ عبدالله المعيدي على هذه القصة الجميلة نفعنا الله بها
ورحم الله الإمام ابراهيم الحربي وجمعنا به في جنة الفردوس مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحزبه
ـ[أبو عروة]ــــــــ[09 - 01 - 08, 09:59 ص]ـ
جزاك الله خير
ـ[عبدالله المعيدي]ــــــــ[09 - 01 - 08, 09:50 م]ـ
شكراً اخي سالم على مرورك ..
ابوعزوز واياكم ..
ـ[محمد العفاسى]ــــــــ[10 - 01 - 08, 02:22 م]ـ
جزاك الله خيرا
ـ[أبو حازم الكاتب]ــــــــ[10 - 01 - 08, 05:16 م]ـ
بارك الله فيك
القصة مفرقة موجودة في ترجمة إبراهيم الحربي _ رحمه الله _ في طبقات الحنابلة (1/ 87) وكذا صفة الصفوة (2/ 407)
ـ[ابن عبدِ الحميد]ــــــــ[10 - 01 - 08, 10:13 م]ـ
ماشاء الله تبارك الله قصة مؤثرة نسأل الله الرحمة والمغفرة لإبراهيم والعفو والعافية للأخ عبد الله المعيدي