كنا نحن البنات الأربع قمة في الهدوء والنظام والاجتهاد في المدرسة، كانت أمي حريصة كل الحرص على معرفة صديقاتنا والتقرب منهن خوفاً علينا وعلى سلوكيّاتنا وأنهيت أنا وأخواتي دراستنا الجامعية ووفقنا الله في أن نتولى وظائف محترمة في سلك التدريس، وبدأت المشاكل عندما تقدم لخطبتي أخٌ لإحدى صديقاتي وكان شاباً يتمتع بأخلاق عالية، وقد تقدم لخطبتي سبع مرات وفي كل مرة كان والدي يرفض زواجي منه لأنه من عائلة عادية ولا يملك أموالاً وشركات وأملاكاً، وحاولت والدتي مساعدتي وإقناع والدي ولكنها لم تفلح وأصر هو على رفضه، وذهب هذا الشاب وتزوج من أخرى، بعدها تقدم شاب آخر يعمل في سلك التدريس ومن أسرة طيبة وكريمة لكن ليس له مورد مادي سوى الراتب، وهو يملك السمعة الطيبة والأخلاق الكريمة والسيرة الحميدة، وأيضاً رفضه والدي لأنه فقير ولا يملك المال والجاه وبالأصح لأنه ليس بصاحب مظهر كذاب ـ مدعياً والدي بأن هذا الرجل لن يسعدني وليس بمقدوره ضمان حياة عالية المستوى، وأيضاً ذهب هذا الشاب وتزوج بأخرى .. وفي كل مرة يتقدم لخطبتي شخص يرده والدي لأنه ليس بغني ولا يملك الثروة والجاه، مع العلم أن حالتنا متوسطة ولسنا أغنياء، وكل شخص يتقدم لخطبتي يحكم عليه من المرة الأولى بالفقر وأنه لن يسعدني، وأيضاً قاسى أخواتي الثلاثة نفس المعاناة وشربن من نفس الكأس التي شربت منها، والحقيقة أننا لم نستطع الوقوف والصمود أمام تحكم والدنا وصرنا نعاني من الألم والحزن بعدما أصبحنا (عوانس) نتحسر على الأزواج والأطفال والحياة الأسرية.
فأصبح عمري تسعة وثلاثين، وأختي في الثامنة والثلاثين، والتي تليها في السادسة والثلاثين، والصغرى بلغت الخامسة والثلاثين.
نعم .. أصبحنا (عوانس) أمام الجميع وأمام أنفسنا، تقدم بنا العمر، وفاتنا قطار الزواج، وجاوزنا العمر المناسب للزواج وها نحن نعيش مع والدنا وأمامه بكل حزن وألم ولوعة، نعيش الحرمان والأسى وكل واحدة منا تبكي حظها العاثر، فكل صديقاتنا يعشن حياة زوجية في ظل أسرة سعيدةٍِ أبناء .. وبنات .. وزوج .. ، أما نحن فنعيش الألم والعنوسة، والجميع يقول عنا (عوانس) لا أزواج ولا أبناء لأن والدنا حكم علينا هذا الحكم القاسي، فلا زواج إلا من رجل غني يملك فيلا وشركات .. و .. و .. و ..
هل تصدقون إذا قلت لكم إنه تمر علينا ليالٍ طويلة وأنا وأخواتي نتحسر على أنفسنا ومشاعرنا وقلوبنا، ونتمنى أن أطفالنا بين أيدينا، نرضعهم، ونربيهم، ونحضنهم بحبنا وعطفنا.
مشكلتنا هذه جعلتنا نفتقر لعامل الاستقرار وأصبحنا ندلل على أنفسنا بين الخاطبات لعلهن يجدن لنا من تتوفر فيه الشروط التي يريدها والدي وأيضاً كل هذه المحاولات باءت بالفشل وأصبحت الحياة لا لذة لها ولا قيمة وساعتنا كلها سوداء خالية من البهجة والأمل والفرح.
يكفي أن أقول لكم أننا فعلاً محرومات من عاطفة الأمومة ومحرومات من دفء كنف الأزواج، ونهايتنا ستكون التشتت والضياع، ووالدي لا يزال مصرا ًعلى آرائه وأفكاره وتحكمه فهو لا يدرك نهايتنا ومصيرنا في المستقبل.
فأخبرونا ماذا نفعل بالله عليكم؟ .. ".
فهذه مأساة واحدة من بين مئات المآسي، وتصوير دقيق لمعاناة بعض الفتيات، أرسى دعائمها بعض الآباء.!
بل والمصيبة العظمى أن بعض الآباء قد دفع بابنته ـ من حيث لا يشعر ـ نحو الخطأ؛ بسبب رفضه الدائم لتزويجها، وتلبية نداء الفطرة الذي يتحرك في داخلها ويصرخ في أعماقها.
قالت إحدى الفتيات:
"كنا مجموعة من الفتيات على استقامة وخلق، وبسبب رفض آبائنا المستمر لمن يتقدم لطلب الزواج منا ـ بحجج واهية ـ فقد انحرف جميع صديقاتي وأصبحن من أهل الهواتف والمواعيد؛ لأن آباءهن رفضوا تحصينهن بالزواج الشرعي، وكم من واحدة منهن تقول لي ماذا تنتظرين؟ وتجدد لي الدعوة بين حين وآخر، وأنا لم أزل أقاوم، ويعلم الله كم أعاني في سبيل القبض على ديني، ولكني أخشى ألاّ يدوم هذا طويلاً، وأنجرف كما انجرف صاحباتي اللاتي كلما عاتبت واحدة منهن على انحرافها تقول: والدي هو السبب .. ! ".
وأخرى فاتها قطار الزواج، وأصبحت في عداد العوانس، تقول في قصتها:
¥