لقد حسب الله لي ما أنفقته في سبيله وادخره لي في بنك الحسنات الذي يعطي أرباحا سنوية قدرها سبعون ألفا في المئة، نعم: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ}، وهناك زيادات تبلغ ضعف الربح: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ}، فأرسل الله صديقا لي سيدا كريما من أعيان دمشق فأقرضني ثمن الدار، وأرسل أصدقاء آخرين من المتفضلين فبنوا الدار حتى كملت وأنا – والله – لا أعرف من أمرها إلا ما يعرفه المارة عليها من الطريق، ثم أعان الله برزق حلال لم أكن محتسبا فوفيت ديونها جميعا، ومن شاء ذكرت له التفاصيل وسميت له الأسماء.
وما وقعت والله في ضيق قط إلا فرجه الله عني، ولا احتجت لشيء إلا جاءني، وكلما زاد عندي شيء وأحببت أن أحفظه وضعته في هذا البنك.
فهل في الدنيا عاقل يعامل بنك المخلوق الذي يعطي 5%ربحاً حراماً وربما أفلس أو احترق، ويترك بنك الخالق الذي يعطي في كل مئة ربح قدره سبعون ألفا؟، وهو مؤمن عليه عند رب العالمين فلا يفلس ولا يحترق ولا يأكل أموال الناس.
فلا تحسبوا أن الذي تعطونه يذهب هدرا، إن الله يخلفه في الدنيا قبل الآخرة، وأنا لا أحب أن أسوق لكم الأمثلة فإن كل واحد منكم يحفظ مما رأى أو سمع كثيرا منها،
إنما أسوق لكم مثلا واحدا: قصة الشيخ سليم المسوتي رحمه الله، وقد كان شيخ أبي، وكان – على فقره – لا يرد سائلا قط، ولطالما لبس الجبة أو " الفروة " فلقي بردانا يرتجف فنزعها فدفعها إليه وعاد إلى البيت بالإزار، وطالما أخذ السفرة من أمام عياله فأعطاها للسائل، وكان يوما في رمضان وقد وضعت المائدة انتظارا للمدفع، فجاء سائل يقسم أنه وعياله بلا طعام، فابتغى الشيخ غفلة من امرأته وفتح له فأعطاه الطعام كله!، فلما رأت ذلك امرأته ولولت عليه وصاحت وأقسمت أنها لا تقعد عنده، وهو ساكت ..
فلم تمر نصف ساعة حتى قرع الباب وجاء من يحمل الأطباق فيها ألوان الطعام والحلوى والفاكهة، فسألوا: ما الخبر؟، وإذا الخبر أن سعيد باشا شموين كان قد دعا بعض الكبار فاعتذروا، فغضب وحلف ألا يأكل أحد من الطعام وأمر بحمله كله إلى دار الشيخ سليم المسوتي، قال: أرأيت يا امرأة؟
وقصة المرأةالتي كان ولدها مسافرا، وكانت قد قعدت يوما تأكل وليس أمامها إلا لقمة إدام وقطعة خبز،
فجاء سائل فمنعت عن فمها وأعطته وباتت جائعة،
فلما جاء الولد من سفره جعل يحدثها بما رأى،
قال: ومن أعجب ما مر بي أنه لحقني أسد في الطريق، وكنت وحدي فهربت منه، فوثب علي وما شعرت إلا وقد صرت في فمه، وإذا برجل عليه ثياب بيض يظهر أمامي فيخلصني منه ويقول " لقمة بلقمة "، ولم أفهم مراده.
فسألته عن وقت هذا الحادث وإذا هو في اليوم الذي تصدقت فيه على الفقير، نزعت اللقمة من فمها لتتصدق بها فنزع الله ولدها من فم الأسد.
والصدقة تدفع البلاء ويشفي الله بها المريض، ويمنع الله بها الأذى وهذه أشياء مجربة، وقد وردت فيها الآثار، والذي يؤمن بأن لهذا الكون إلها هو يتصرف فيه وبيده العطاء والمنع، وهو الذي يشفي وهو يسلم، يعلم أن هذا صحيح، والملحد ما لنا معه كلام.
والنساء أقرب إلى الإيمان وإلى العطف، وإن كانت المرأة –بطبعها- أشد بخلا بالمال من الرجل، وأنا أخاطب السيدات وأرجو ألا يذهب هذا الكلام صرخة في واد مقفر، وأن يكون له أثره،وأنت تنظر كل واحدة من السامعات الفاضلات ما الذي تستطيع أن تستغني عنه من ثيابها القديمة أو ثياب أولادها، ومما ترميه ولا تحتاج إليه من فرش بيتها، ومما يفيض عنها من الطعام والشراب، فتفتش عن أسرة فقيرة يكون هذا لها فرحة الشهر.
ولا تعطي عطاء الكبر والترفع، فإن الابتسامة في وجه الفقير (مع القرش تعطيه له) خير من جنيه تدفعه له وأنت شامخ الأنف متكبر مترفع، ولقد رأيت بنتي الصغيرة بنان – من سنين – تحمل صحنين لتعطيهما الحارس في رمضان قلت: تعالي يا بنت، هاتي صينية وملعقة وشوكة وكأس ماء نظيف وقدميها إليه هكذا، إنك لم تخسري شيئا، الطعام هو الطعام، ولكن إذا قدمت له الصحن والرغيف كسرت نفسه وأشعرته أنه كالسائل (الشحاذ)، أما إذا قدمته في الصينية مع الكأس والملعقة والشوكة والمملحة ينجبر خاطره ويحسّ كأنه ضيف عزيز.
¥