تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فالظاهرة: غُربة أهل الصلاح بين الفساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة العلماء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق، وغربة علماء الآخرة بين علماء الدنيا الذين سُلبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين فيما ينفد وليس بباق.

وأما الغربة الباطنة: فغربة الهمة، وهي غربة العارفين بين الخلق كلهم حتى العلماء والعباد والزهاد، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم لا يعرجون بقلوبهم عنه.

فكان أبو سليمان الداراني يقول في صفتهم: وهمتهم غير همة الناس وإرادتهم الآخرة غير إرادة الناس، ودعاؤهم غير دعاء الناس.

وسُئل عن أفضل الأعمال فبكى وقال: أن يطلع على قلبك فلا يراك تريد من الدنيا والآخرة غيره.

وقال يحيى بن معاذ: الزاهد غريب الدنيا، والعارف غريب الآخرة.

يشير إلى أن الزهد غريب بين أهل الدنيا، والعارف غريب بين أهل الآخرة، لا يعرفه العباد ولا الزهاد، وإنما يعرفه من هو مثله وهمته كهمته.

وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها أو كثير منها أو بعضها فلا يسأل عن غربته، فالعارفون ظاهرون لأهل الدنيا والآخرة.

قال يحيى بن معاذ: العابد مشهور والعارف مستور، وربما خفي حال العارف على نفسه لخفاء حالته وإساءة الظن بنفسه.

وفي حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب العبد الخفي التقي».

وفي حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب من عباده الأخفياء الأتقياء، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم».

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: طوبى لكل عبد لم يعرف الناس ولم تعرفه الناس، وعرفه الله منه برضوان، أولئك مصابيح الهدى، تجلى عنهم كل فتنة مظلمة.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، مصابيح الظلام، تخفون على أهل الأرض وتعرفون في أهل السماء.

فهؤلاء أخص أهل الغربة، وهم الفرارون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل الذين يُحشرون مع عيسى عليه السلام، وهم بين أهل الآخرة أعز من الكبريت الأحمر، فكيف يكون حالهم بين أهل الدنيا، وتخفى حالهم غالبا على الفرقتين كما قال:

تواريت عن دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني

ولو تسئل الأيام ما اسمي لما درت ... وأين مكاني ما فرعن مكاني

ومن ظهر منهم للناس فهو بينهم ببدنه، وقلبه معلق بالنظر الأعلى كما قال أمير المؤمنين رضي الله عنه في وصفهم:

جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن

وكانت رابعة العدوية - رحمها الله تعالى - تنشد في هذا المعنى:

ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للحبيب مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وأكثرهم لا يقوى على مخالطة الخلق فهو يفر إلى الخلوة ليستأنس بحبيبه، ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة.

وقيل لبعضهم: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟.

وقال آخر: وهل يستوحش مع الله أحد؟.

وعن بعضهم: من استوحش من وحدته فذلك لقلة أنسه بربه.

وكان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد فعاتبه أخوه فقال له: إن كنت من الناس فلا بد لك من الناس، فقال: يحيى: إن كنت من الناس فلا بد لك من الله.

وقيل له: إذا هجرت الخلق مع من تعيش؟ قال: مع من هجرتُهم له.

وأنشد إبراهيم بن أدهم:

هجرت الخلق طرًّا في هواكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحب إربا ... لما حن الفؤاد إلى سوكا

وعوتب ابن غزوان على خلوته فقال: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.

ولغربتهم من الناس ربما نُسب بعضهم إلى الجنون لبعد حاله من أحوال الناس كما كان أويس يُقال ذلك عنه.

وكان أبو مسلم الخولاني كثير اللهج بالذكر لا يفتر لسانه فقال رجل لجلسائه: أمجنون صاحبكم؟ وقال: أبو مسلم: يا ابن أخي! لكن هذا دواء الجنون.

وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الله حتى يقولوا مجنون».

وقال الحسن في وصفهم: إذا نظر إليهم الجاهل حسبهم مرضى وما بالقوم من مرض. ويقول: قد خولطوا وقد خالط القوم أمر عظيم، هيهات، والله مشغول عن دنياكم.

وفي هذا المعنى قال:

وحرمة الود ما لي عنكم عوض ... وليس لي في سواكم سادتي غرض

وقد شرطت على قوم صبحتهم ... بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا

ومن حديثي بهم قالوا به مرض ... فقلت لا زال عني ذلك المرض

وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى رجل فقال: «استحي من الله كما تستحي من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك».

وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت».

وفي حديث آخر أنه «سئل صلى الله عليه وسلم: ما تزكية النفس؟ قال: (أن يعلم أن الله معه حيث كان)».

وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة في ظل الله يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله». . . فذكر منهم رجلا حيث توجه علم أن الله معه).

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه «سئل عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)».

ولأبي عبادي في هذا المعنى أبيات حسنة أساء بقولها في مخلوق، وقد أصلحت منها أبياتا حتى استقامت على الطريقة:

كأن رقيبا منك يرعى خواطري ... وآخر يرعى ناظري ولساني

فما بصرت عيناي بعدك منظرا ... يسؤك إلا قلت قدره نفاني

ولا بدرت من في بعدك لفظة ... لغيرك إلا قلت قد سمعاني

ولا خطرت من ذكر غيرك خطرة ... على القلب إلا عرجا بعناني

إذا ما تسلى القاعدون على الهوى ... بذكر فلان أو كلام فلان

وجدت الذي يسلي سواي يشوقني ... إلى قربكم حتى أمل مكاني

وإخوان صدق قد سئمت لقاءهم ... وأغضيت طرفي عنهم ولساني

وما الغض أسلى عنهم غير أنني ... أراك كما كل الجهات تراني

انتهى الكتاب

والله أعلم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير