* ومن العقوبات التي حلت بمن انتقص الرسول صلى الله عليه وسلم ولو تعريضاً في هذا الزمان ما ذكره الشيخ أحمد شاكر رحمه الله عن أحد خطباء مصر، وكان فصيحاً متكلماً مقتدراً وأراد هذا الخطيب أن يمدح أحد أمراء مصر عندما أكرم طه حسين، فقال في خطبته: جاءه الأعمى [12].
فما عبس بوجهه وما تولى!، فما كان من الشيخ محمد شاكر - والد الشيخ أحمد شاكر إلا أن قام بعد الصلاة، يعلن للناس أن صلاتهم باطلة، وعليهم إعادتها؛ لأن الخطيب كفر بما شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول أحمد شاكر: ولكن الله لم يدعْ لهذا المجرم جرمه في الدنيا، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسمُ بالله لقد رأيته بعيني رأسي - بعد بضع سنين، وبعد أن كان عالياً منتفخاً، مستعزّاً بمَن لاذ بهم من العظماء والكبراء رأيته مهيناً ذليلاً، خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه، فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتة فيه؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيت من عبرة وعظة [13].
6 - وفي نهاية هذه المقالة أقول: إن مما حباً للرسول - صلى الله عليه وسلم والتصاقاً بهديه وسيرته، أن نسعى إلى محاسبة أنفسنا ومعرفة أخطائنا، فإذا اكتشفنا عيوباً، فسنجد في هديه صلى الله عليه وسلم العلاج الناجع لهذه الأدواء التي حلت بنا، وإليك أمثلة على ذلك:
فإذا كان أحدنا مقصراً في جانب النوافل والعبادات مثلاً فليتذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي حتى تتورم قدماه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وقد يكون أحدنا متصفاً بالجبن والهلع، ألا فليعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخبر أنس بن مالك رضي الله عنه كان من أشجع الناس، وقد قال علي رضي الله عنه: إنا كنا إذا حمي البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان البعض منا مشغوفاً بحب الدنيا والتكالب عليها، ومن ثم فلينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أزهد الناس في الدنيا، حتى قالت عائشة: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أياما تباعاً من خبز حتى مضى لسبيله [14].
وقد نلمس في أنفسنا وغيرنا جفاءً مع الناس وسوء معاملة، وقد قال أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أُفٍّ قط، وما قال لشيء صنعته لِمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ وصدق الله - تعالى - عندما قال - سبحانه في شأنه -: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) (آل عمران:159).
وأخيراً فقد يتلبس أحدنا بأَثَرَة وأنانية، فلا يهتم إلا بنفسه وشخصه مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
هذا الحديث الذي يبين ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الموالاة والرحمة والإشفاق لأهل الإيمان.
عن جرير قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة، متقلدي السيوف، عامتهم من مُضر، بل كلهم من مضر، فتمعَّر (تغير) وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذّن وأقام، ثم خطب فقال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ .. )) إلى آخر الآية ((إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء: 1).
والآية التي في الحشر: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ)).
تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثويه، من صاع بُره، من صاع تمره حتى قال: ((ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار كادت كفه تعجز عنها، بل لقد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم يتهلل (يستنير) كأنه مُذْهَبَة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينتقص من أجورهم شيء)) [15].
أسأل الله أن يرزقنا تمام التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يحشرنا مع زمرته.
[1] مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 1/ 190.
[2] الشفا، 2/ 563.
[3] رواه البخاري ومسلم.
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] انظر تفصيلاً لتلك العلامات في كتاب الشفا للقاضي عياض، 2/ 571 - 577
[6] الشفا، 2/ 571.
[7] رواه البخاري ومسلم.
[8] جامع العلوم والحكم، 1/ 177.
[9] الصارم المسلول، 422.
[10] الصارم المسلول، 211.
[11] الصارم المسلول، 117.
[12] يعني طه حسين، ومن المعلوم أن طه حسين كان أعمى البصر والبصيرة، انظر: (طه حسين في ميزان الإسلام) للأستاذ أنور الجندي.
[13] كلمة الحق، 176 - 177.
[14] رواه مسلم.
[15] رواه مسلم.
¥