تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الدنيا مُخبر يتحدث، كان فلان، وكان فلان، وصحبتُ فلانا، وزارني فلان، وجلسنا مع فلان وجلس معنا، وهو في قبره مرتهن بعمله، هذا هو الحقيقة الواقعة لهذه الدنيا، فكيف نغالي فيها؟! وكيف نؤمل البقاء؟!، وكيف نجعل ما نحصله منها أكثر في نفوسنا وأكبر مما نحصله للآخرة؟! وما ذلك إلا من جهلنا وظلمنا.

قال: ومزنة صيفٍ طابَ منها مَقِيلُها فولَّتْ سرِيعًا والحُرُورُ تَضَرَّمُ، هذا إنسان في الفلاة، في الحر الشديد، صيف، أظله الله تعالى بُمزنة قطعة من الغمام، بيضاء باردة، والمزن كما نعرف جميعا يمشي، هذه المزنة أظلته ساعة من الزمان، ثم راحت، فبقي عنده الحرور يتضرم، هكذا الدنيا أيضا، وقد شبهها الرسول عليه الصلاة والسلام بأنها مثل الإنسان الذي قالَ في ظل دوحة ثم قام وتركها، قالَ فيها حتى صار آخر النهار، وبرد الجو، ثم قام فتركها.

قال: ومطعم ضيفٍ لذَّ منه مَسَاغُهُ وبعدَ قليلٍ حالُهُ تلكَ تُعْلَمُ.

والعجب أن هذا وصفها، وهذه حقيقتها، ثم الإنسان لا يدري متى يرتحل منها، هذا الغريب أن تكون في نفوسنا إلى هذا الحد من الغلا، ونحن لا ندري أي ساعة نجيب داعي الله – عزوجل-، لا يدري الإنسان، كل إنسان والله ما يستطيع أن يحكم بأنه سيدرك غدا، إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وهذه حقيقة ليست أحاديث مجالس، هذه حقيقة واقعة، هل ممكن أحد يستطيع أن يجزم بأنه سيعيش إلى غد؟! أبدا، إذاً مهما طابت الدنيا، والله فليس فيها خير إلا ما كان منها مزرعة للآخرة، فنعم الدار هي، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في المال: " نعم المال الصالح عند الرجل الصالح "، " خيركم من طال عمره، وحسن عمله ".

إذا كان الإنسان يُعِدُّها مزرعة للآخرة، لا يقول قولا، ولا يفعل فعلا، ولا يدع شيئا إلا وهو يريد التقرب به إلى الله،’ حتى مكالمة إخوانه والأُنْس إليهم يبتغي بذلك وجه الله، حينئذ تكون مزرعة للآخرة، بل تكون جنة مقتطعة ومقدمة من الآخرة، كما قال أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى – شيخ الإسلام لما أدخلوه في الحبس، قال: ما يفعل أعدائي بي؟! – يعني أي شيء يفعلونه؟ _ جنتي في صدري، جنته في صدره رحمه الله تعالى، علم وإيمان ونور وطمأنينة، هذه الجنة نسأل الله من فضله، وليست الجنة هي البستان الذي إذا خرج إليها فيها نخيل تهتز،وفواكه وغيره، هذه جنة جسد!، لكن جنة القلب لا يعدلها شيء، قال: " جنتي في صدري، إنّ حبسي خلوة!، ونفيي سياحة!، وقتلي شهادة! "، الله أكبر، انظر إلى اليقين العجيب!، سبحان الله العظيم، هذا من يقين الرسل – عليهم الصلاة والسلام – لما خرج موسى بقومه، واتبعهم فرعون بقومه، وصاروا بين البحر وبين جنود فرعون، قال أصحاب موسى: إنا لمدركون!، البحر أمامنا إن خضناه غرقنا، وفرعون بجنوده خلفنا إن أدرَكَنا أهلكنا، فقال بطمأنينة: كلا، لسنا مدركين، إن معي ربي سيهدين، الله أكبر انظر إلى اليقين في هذه الشدة، فأوحى الله أن اضرب البحر، فضربه فانفلق في الحال، ويبس في الحال، {اضرب لهم طريقا في البحر يبسا}، فخرجوا كلهم عن آخرهم، ودخل فرعون بجنوده عن آخرهم، فأوحى رب العزة والجلال إلى هذا البحر أن انطبق فانطبق على فرعون وجنوده، فغرقوا، وأولئك نجوا، الله أكبر، اللهم ارزقنا الإيمان واليقين، يعني من يصل إلى هذه الدرجة إلا منْ منّ الله عليه باليقين التام.

أنا أقول: الإنسان ينبغي له أن يجعل هذه الدنيا مزرعة الآخرة لينتفع بها.

فجُزْها مَمَرًّا لا مقرًّا وكنْ بِها ** غريبًا تَعِشْ فيها حمَيِدًا وتَسْلَمُ

قال الشارح:

صحيح، هذه نصيحة من ابن القيم – رحمه الله تعالى – أن يجوز هذه الدنيا على أنها ممر لا مقر، وأن نكون فيها غرباء، كالغريب الذي لا يريد الاستيطان، فإنك تعيش حميدا وتسلم، لكن البلاء كل البلاء أن يتخذها الإنسان مقرا وموطنا، لأنه إذا اتخذها مقرا وموطنا غفل عن الآخرة بلا شك، لأنه يرى أن هذه موطن، مع أنه يوم القيامة يقول: {يا ليتني قدمت لحياتي}، ويقول الله عزوجل: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان}. هي الحياة العظيمة الحقيقية، ولهذا جاءت {لهي الحيوان} أي الحياة الكاملة، وهنا يقول: تعيش فيها

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير