إن المهم بالنسبة للعبد المبتلى هو سلامة القلب، فلا يضرك ما فاتك من جارحتك إذا سلم قلبك، ما كان عند أيوب عليه السلام إلا قلباً، حتى إن أحاديث الإسرائيليات التي وردت في قصة أيوب فيها روايات تقول: إن أيوب عليه السلام كان الدود يرعى في جسمه، لكنه ما ضره ما فاته من جارحته إذ سلم قلبه.
فلا تنظر إلى جارحتك، فأنت لا تدري لعل الله تبارك وتعالى إن تركك صحيحاً كنت من العصاة، فالعجز عن معصية الله نعمة.
وهنا تحضرني قصة كنت أحد أطرافها، وملخصها: أن طفل صغيراً عمره تسع سنوات، ولد وفي قلبه ثقب، ثم إن هذا الثقب أثر فيه فكان معاقاً من أطرافه الأربعة، ثم عرضنا أمر هذا الطفل الصغير على بعض أهل الخير فتبرع بكرسي وتبرع بدفع نفقات جلسات كهرباء لهذا الولد الصغير.
بدأ الطفل في رحلة العلاج، وسبحان الذي برأه وأعاده مرة أخرى إلى صحته بعد حوالي سبع سنوات! وقف هذا الطفل على رجليه واسترد عافيته، وحين شب صار يعمل في الأعمال اليدوية الشاقة، سافر هذا الشاب إلى العراق من نحو عشر سنوات أو أكثر، ولما ذهب هناك ما ترك معصية إلا فعلها، فعل كل شيء؛ زنى فأدمن الزنا، وشرب الخمر فأدمن شرب الخمر، ثم رجع مرة أخرى وهو يجر أذيال خيبته، ومن حينها ما استقام، وهو حتى الآن لا يصلي! فلو بقي عاجزاً ألم يكن ذلك نعمة له؟ فالله تبارك وتعالى يبتلي بالشر والخير، لكن أحسن الظن بربك، قل: إن الله اختار لي ما فيه الخير، فلو كنت صحيحاً قد لا أكون طائعاً، قد لا أكون ممتثلاً، فإذا أحسنت الظن بالله تبارك وتعالى ضمن لك سلامة قلبك: فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل
أنموذج عظيم في الصبر على البلاء
وقد روى الإمام ابن حبان رحمه الله في كتاب الثقات قصة عجيبة لمعوق من أشهر المعوقين في تاريخ المسلمين وهو الإمام الكبير العلم أبو قلابة الجرمي عبد الله بن يزيد وكان من الرواة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ويروي هذه القصة عبد الله بن محمد.
قال: خرجت مرابطاً في عريش مصر، فبينما أنا أمشي إذ مررت بخيمة وسمعت رجلاً يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] قال: فنظرت إلى هذا الرجل الذي يدعو فإذا هو معاق، وقد فقد يديه ورجليه، وفقد بصره، وثقل سمعه، فجئته وقلت له: يا عبد الله! إني سمعتك تقول كذا وكذا، فعلى أي شيء تحمد الله؟! فقال له: يا عبد الله! والله لو أرسل الله الجبال فدمرتني، والبحار فأغرقتني، ما وفيت نعمة ربي على هذا اللسان الذاكر، ثم قال له: لقد فقدت ابني منذ ثلاثة أيام، فهل تلتمسه لي؟ وكان ابنه هذا يوضئه ويطعمه، فقلت له: والله ما سعى أحد في حاجة أحد أفضل من حاجتك.
قال: فتركته وخرجت أبحث عن الغلام، فما مشيت قليلاً إلا وأبصرت عظمه بين كثبان من الرمل، وإذا بسبع قد افترسه، قال: فوقفت وقلت: كيف أرجع إلى صاحبي وماذا أقول له؟! وجعلت أتذكر، قال: فتذكرت أيوب عليه السلام فلما رجعت إليه سلمت عليه، فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى. قال: فماذا فعل ولدي؟ قلت: هل تذكر أيوب عليه السلام؟ قال: نعم.
قلت: ماذا فعل الله به؟ قال: ابتلاه الله عز وجل في نفسه وفي ماله، قال: فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً، قال: ولم يكن ذلك فقط، إنما انفض عنه القريب والبعيد، ورفضه القريب والبعيد، قلت: وكيف وجده؟ قال: وجده صابراً، يا عبد الله! ماذا تريد؟ فقال له: احتسب ولدك، فإني وجدت سبعاً افترسه بين كثبان الرمل، قال: الحمد لله الذي لم يخلق مني ذرية إلى النار، وشهق شهقة فخرجت روحه فيها، قال عبد الله بن محمد: فقعدت حائراً ماذا أفعل، لو تركته لأكلته السباع، ولو ظللت بجانبه ما استطعت أن أفعل له شيئاً.
قال: فبينما أنا كذلك إذا هجم علي جماعة من قطاع الطرق، فقالوا: ما حكايتك؟ فحكيت لهم الحكاية، قالوا: اكشف لنا عن وجهه، فكشفت عن وجهه فانكبوا عليه يقبلونه وهم يقولون: بأبي عيناً طالما غضت عن محارم الله، وبأبي جسماً كان على البلاء صابراً، قال: فغسلناه وكفناه ودفناه، ثم رجعت إلى رباطي.
قال: فنمت فرأيته في منامي صحيحاً معافى، فقلت له: ألست بصاحبي؟ قال: بلى.
¥