تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قولته نفسها: أفلا تبصرون إلى قوتي وضعف موسى؟

ونحو ذلك ما كان من قريش من الاستدلال المغلوط: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، أي الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف. واستدلوا أيضاً –أقصد المشركين- على فساد الرسالة بكون أكثر أتباعها من المستضعفين، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، وذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كان غالب من اتبعه في أول البعثة، ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل. والغرض: أن مشركي قريش كانوا يسخرون ممن آمن من ضعفائهم، ويصدون الناس عن الرسالة بكون هؤلاء من أتباعها، وكانوا يقولون بازدراء: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنَا}؟ أي: ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير -لو كان ما صاروا إليه خيراً– ويدعنا، كما قالوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، وكما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم:73]. فردَّ الله تعالى عليهم: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم:74]، وقال في جوابهم حين قالوا: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنَا} قال: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. [انظر: تفسير ابن كثير - (ج 3 / ص 261)]. وفي الحديث الصحيح: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". ويشهد لهذا ما ورد في مسند أحمد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنْ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَت الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم-: "مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ " قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ. فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ". فساقُ ابن مسعود على حموشتها ودقتها أثقل من أحد، أما الرجل الضخم السمين من الكفار والمنافقين فلا يقيم الله له وزناً كما ورد في الصحيحين: (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ اقْرَءُوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]). فهذا هو الوزن الحق، ولكن أكثر الناس عندما يبتعدون عن موازين الوحي وضوابط الشرع يقيسون الأمور ذلك القياس الخاطئ. قياس الفضل بالمال، والفهم بالجاه، والمعرفة بالسلطان .. فذو المال أفضل. وذو الجاه أفهم. وذو السلطان أعرف!!! هذه المفاهيم وتلك القيم التي تسود دائماً حين تغيب عقيدةُ التوحيد عن المجتمع، أو تضعف آثارها، فترتد البشرية إلى عهود الجاهلية، وإلى تقاليد الوثنية في صورة من صورها الكثيرة وإن بدت في ثوب من الحضارة المادية قشيب. وهي انتكاسة للبشرية من غير شك. [في ظلال القرآن - (ج 4 / ص 212)].

والاستدلال بضعف الأتباع منطق جاهلي قديم بعيد عن العقل والعدل، ولكنه ينطلي على كثير من الناس؛ لتعلق قلوب أكثر الناس بالدنيا وزينتها، كما قال قومُ نوح لنوح: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27]، والأراذل هنا هم الفقراء والضعفاء وأصحاب المهن. قال القرطبي: قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد للغير، والفقير خلي عن تلك الموانع، فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. وهذا غالب أحوال أهل الدنيا. [تفسير القرطبي - (ج 9 / ص 23)].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير