تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وحينئذٍ أقول بما اتفق عليه المسلمون من وجوب رد المسائل المختلف فيها إلى الكتاب والسنة على فهم أئمة السلف والنظر في أقوالهم واجتهاداتهم وترجيح ما رجحه الدليل.

ومن أمثلة ذلك أن العلماء تنازعوا في أحكام نواقض الوضوء واختلفوا في أكل لحم الجزور ولمس النساء فيما دون الجماع وما يخرج من غير السبيلين في الجسد ويعبر عن ذلك بعض الفقهاء بقوله والخارج النجس من الجسد (2)، فكان لكل إمام قول في هذه المسألة، فمذهب الأئمة الثلاثة مالك وأبي حنيفة والشافعي أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء، ومذهب أحمد رحمه الله أنه ينقض الوضوء، واختاره ابن حزم.

والصحيح في ذلك مذهب أحمد فقد صح في ذلك حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلان على أن لحم الجزور ينقض الوضوء أحدهما حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم (3) والآخر حديث البراء عند أبي داود (4) والترمذي (5) وغيرهما.

وأما لمس النساء باليد والقبلة ونحو ذلك فقد ذهب الشافعي إلى أن لمس المرأة ينقض الوضوء سواء كان بشهوة أم بغير شهوة، وذهب أبو حنيفة إلى أن اللمس لا ينقض الوضوء مطلقاً، وذهب مالك وأحمد في رواية إلى أنه لا ينتقض الوضوء إلا بشهوة.

والمتأمل للأدلة في هذه المسألة يجد أن الأحناف أقرب المذاهب للصواب وهو رواية عن أحمد اختارها شيخ الإسلام، فإنه لم يرد دليل تقوم به حجة يدل على النقض لا بشهوة ولا بغيرها، والبراءة الأصلية دليل من الأدلة يجب اعتبارها، فكان مذهب الأحناف أظهر من غيره في هذه المسألة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبل ويخرج إلى الصلاة، ولم يذكر أنه توضأ، ولم يرد في الحديث أيضاً أن ذلك بدون شهوة، فدل على العموم، إلا أن في صحة هذا الخبر نظراً، فقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من طريق وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة به وهو معلول لم يسمعه حبيب من عروة (6)، وقد صح في الباب غير حديث والله أعلم.

وأما الذي يخرج من الجسد كالدم ونحوه، فمذهب أحمد أن ذلك ناقض من نواقض الوضوء، ومذهب الشافعي أنه لا ينقض الوضوء مطلقاً، وهذا الصحيح، وهو قول مالك ورواية عن أحمد رجحها شيخ الإسلام وكثير من أهل العلم، فإنه لم يرد دليل على أن ما يخرج من الجسد سوى السبيلين ينقض الوضوء، والأصل عدم النقض.

وهذه الأمثلة إنما ذكرتها ليعلم أن الحق ليس محصوراً على عالم أو طائفة أو مذهب معين، وأن المسلم ليس مأموراً باتباع أو التزام مذهب معين بل الحق ضالته ومطلبه، وكل مذهب فيه خطأ وصواب.

فالحنبلي معه كثير من الحق في كثير من المسائل، والشافعي والمالكي والحنفي كلهم كذلك، وقد تفرد الإمام ابن حزم عن الأئمة الأربعة ببعض المسائل وكان الحق معه، فالأئمة يتفاوتون في بلوغ الأدلة لهم ومعرفة صحيحها من ضعيفها وناسخها من منسوخها ومطلقها من مقيدها، والمحق يتبع من كان الحق معه دون تحيز، ويرد الباطل دون تشنيع أو قدح في ذواتهم وتنتقص لمكانتهم، لأنهم مجتهدون، فهم دائرون بين الأجر والأجرين.

ومع ذلك فلا يجب على أحد اتباع واحد منهم، ومن زعم ذلك فقد ضل سواء السبيل، فإنه لا يجب اتباع أحد سوى النبي صلى الله عليه وسلم لأن قوله الحق ولا ينطق عن الهوى.

وأما غيره من العلماء وأئمة المذاهب وغيرهم فلا يؤخذ من أقوالهم إلا ما وافق الحق، وهذه المسألة مسألة كبيرة مهمة لا تلج إلا قلب من الهمه الله رشده ووقاه شر نفسه.

وكم من مدع للعلم مشتغل بالتصنيف وقع في التعصب المهلك والتقليد الأعمى، ويغضب إذا خولف إمامه ما لا يغضب لكتاب الله ولا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالموفق من جعل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حكماً على قول كل أحد، وإن خالفه من خالفه أو بدّعه من بدّعه، فقد جرت عادة المقلدين والمتعصبين في تبديع مخالفيهم وتضليلهم، وهذا شأن كل مبطل ومنحرف عن الحق والصراط المستقيم إذا عجز عن إقامة الحجة والدليل، لجأ إلى مثل هذه الأفاعيل.

وقد دل الكتاب والسنة على أن الحق له أعداء كثيرون يصدون عنه وينهون عنه ويأتون بقوالب متنوعة على حسب أمزجتهم وما تهواه نفوسهم.

وصاحب الحق يتعين عليه ألا يتزعزع عن الحق الذي عليه ويدعو إليه فإن الله ناصره ومؤيده ولا يزال منصوراً ما دام يقوم بنصر الدين ونصر الحق مخلصاً في ذلك لله ولا يزال معه من الله ظهير ما دام على تلك الحالة، قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، وقال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، ومن نصره الله فقد كفاه شر أعدائه.

ولكن لا يتم النصر إلا بأمرين:

الإخلاص لله تعالى في القول والعمل.

وموافقة هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

فإذا توفر هذان الشرطان فلا غالب له، وإن اجتمع عليه من بين المشرق والمغرب، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ}.

والحمد لله رب العالمين.


هوامش:
(1) الورع هو الذي يمنعه ورعه أن يقول على الله مالا يعلم.
(2) اعلم أن بعض الفقهاء رحمهم الله يتساهلون في الحكم على الأعيان فيحكمون على مسائل بالنجاسة بدون دليل ولا قياس صحيح وقد تقرر في الأدلة الشرعية أن الأعيان طاهرة حتى تتبين نجاستها وكل ما لم تثبت نجاسته بدليل فهو طاهر كالمني ونحوه والله أعلم.
(3) ج 4/ 48 نووي.
(4) 1/ 315 عون المعبود.
(5) 1/ 122 – 123.
(6) انظر جامع الترمذي 1/ 133، ونصب الراية 1/ 70 - 76، وتنقيح التحقيق 1/ 437 - 442.

مأخوذ من موقع ((منبر التوحيد والجهاد))
http://alsunnah.info/topic.php?topicid=86
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير