* أسباب الردّة: عند تأمَّل التاريخ والواقع نجد جملة أسباب ودوافع أدت إلى حصول حوادث الردّة، وهي وإن كانت على مرّ التأريخ حوادث جزئية وقليلة إلا أننا يمكن من خلال تأملها استلهام جملة من الأسباب الدافعة أو المساعدة على حصول الردة.
ومن هذه الأسباب:
1 - كيد الكفار بالمسلمين: فمن مكر الكفار وكيدهم القديم أن يدخل طائفة منهم في الإسلام ظاهراً حتى إذا سكن إليهم المسلمون، عادوا فارتدوا معلنين السَّخَط على الدين وعدم الرضى به، ليفتنوا المسلمين عن دينهم ويصدوهم عن سبيله.
وقد ذكر الله - تعالى - هذه المكيدة منهم في كتابه.
قال - تعالى -: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران: 72).
قال قتادة: قال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضا بدينهم أوّل النهار واكفروا آخره؛ فإنّه أجدر أن يصدقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم [20].
قال السُّدي: كان أحبار قرى عربيّة اثني عشر حِبْراً، فقالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أوّلَ النهار وقولوا: نشهد أن محمداً حق صادقٍ، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا: إنَّا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدثونا أن محمداً كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا؛ فهو أعجب إلينا من دينكم، لعلهم يشكّون، يقولون هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار؛ فما بالهم؟ فأخبر الله - عز وجل - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك [21].
2 - ضعف الإيمان فلا يثبت عند المحن: من خالط الإيمان قلبه فإنّه لا يتزحزح عنه لأي طارئ، وقد سأل هرقل أبا سفيان ابن حرب قبل أن يسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسئلة يستكشف بها حقيقة حاله، فكان مما سأله: هل يرتدّ أحد منهم أي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان: لا.
فقال هرقل: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب [22].
وفي رواية زاد: لا يسخطه أحد، وفي رواية: وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه [23].
ولما ذكر شيخ الإسلام ابن تيميّة من انخذل من المسلمين يوم أحد مع عبد الله بن أُبي قال: «أولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان .. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الإسلام الذي يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقّاً الذين امتُحنوا فثبتوا على الإيمان، ولا من المنافقين حقّاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتُلوا بالمحن التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً، وينافق أكثرهم أو كثير منهم.
ومنهم من يظهر الردّة إذا كان العدوّ غالباً؛ وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة.
وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عددهم كانوا مسلمين .. ) [24].
ولهذا كانت فائدة المحنة والابتلاء أن يظهر الصادق من الكاذب.
قال - تعالى -: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2 - 3).
وقال - تعالى -: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (محمد: 31).
3 - الافتتان بما لدى الكفار: وهذا الافتتان يتخذ صوراً عديدة يجمعها ويربط بينها ضعف الشخصية الإيمانية والاقتناع التام بصدق المبدأ.
ومن ذلك الفتنة بما قد يُمَكّن للشخص من شهوات، فلما حاصر النصارى عكا سنة ست وثمانين وخمسمائة استمرت أمداد الفرنج تقدم عليهم من البحر كل وقت حتى إنَّ النساء ليخرجن بنيّة راحة الغرباء في الغربة، فقدم إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة حسناء بهذه النيّة، حتى إنّ كثيراً من فسقة المسلمين تحيّزوا إليهم لأجل هذه النسوة [25].
¥