فقالت امرأة قرأتِ القرآن يقال لها أم يعقوب: ما هذا؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله.
قالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدتُهُ.
قال: والله لو قرأتيه لقد وجدتي {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: 7) [56].
ولا شك عند كل مسلم سليم الاعتقاد أنَّ الحديث حجة بنفسه؛ فهو - عليه الصلاة والسلام -[وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] (النجم: 3 - 4).
ومن الشبهات أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب أحداً من المرتدين بقتله.
وقد تبين مما سبق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل من ارتد وعاقب بذلك [57].
بل عاقب به من لم يحارب المسلمين ولم يقاتلهم.
* الردّة وحريَّة الاعتقاد: لا شك أنّ كل مسلم يعلم أنّ الإسلام هو الدين الحقّ، وأنّ ما عداه باطل {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85).
لذا فإن على كل عاقل أن يسلم لله رب العالمين؛ فإن لم يسلم فقد تنكّب الصراط المستقيم، وخالف مقتضى العقل وداعي الفطرة.
ولا يعني هذا منع الإنسان من التفكير، بل هو بتفكيره السليم منقادٌ للإيمان بالله تعالى.
وعلى هذا؛ فليس للإنسان حريّة في الاعتقاد، بل مطلوب منه الإيمان، ولكن لا يُكرَه عليه، فإن أُكره فإنّ إيمانه لا ينفعه؛ لأنّه لم يكن عن قناعةٍ واطمئنان قلب.
قال - تعالى -: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} (غافر: 84 - 85).
أي: أنهم لمَّا عاينوا وقوع العذاب بهم وحَّدوا الله وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة.
إنَّ الله - تعالى - بعث الرسل وأنزل الكتب لبيان الحق ودلالة الخلق، وإقامة البراهين والآيات والمعجزات التي تدل كل صاحب تفكير سليم إلى الإيمان: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (سبأ: 46).
وهذا فيه حريّة ظاهرة؛ إذ لا إكراه على اعتناق الإسلام مع أنّه المخلِّص للبشريّة من ضلالاتها، وسائر مشكلاتها، {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256).
وشاهد هذا حال أهل الذمة الذين أقرهم المسلمون على دينهم دون أن يعرض أحد لهم، وإباحة الشرع للمسلم أن يتزوج كتابيّة ولو بقيت على دينها دون أن يجبرها على التخلي عنه.
أما من دخل في الإسلام فإنّه قد التزم أحكام الإسلام وعقيدته التي منها أن من ارتدّ عنه قتل؛ فهو بدخوله في الإسلام التزم بأحكامه التي منها عقوبته عند الإخلال به.
وإذا كان الإنسان مخيراً في دخول أي بلد، فإذا ما دخلها لزمه الانقياد لأنظمتها وإلا استحق العقوبة على إخلاله، وليس له أن يحتج بأنّه كان مخيراً قبل دخوله لها؛ بينما المرتدّ بردته ارتكب عدة جرائم: جريمة في حق نفسه إذ أضلها، وجريمة باستخفافه بعقيدة أمته ونظامها الذي يرتكز على الإسلام، وجريمة بتشكيكه لضعاف العقيدة في عقيدتهم، وهذا كله مؤدٍّ إلى اضطراب المجتمع واهتزازه؛ كما أنّه أعلن وجاهر بجريمته ولم يسرّ بها؛ لأنه لو أسرّ ردته صار منافقاً، ولمَّا أعلنها صار مرتداً مجاهراً [58].
وكل هذه الجرائم جرائم متناهية في البشاعة، فاستحق العقوبة الشرعيّة على جرائمه تلك.
¥