من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل.
إذن، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة.
والذي يجمع لك كل ذلك: (العلم)؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص.
إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} (مريم:43).
وإن من البلاء؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه.
وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم، لا أن يعترض ويجادل بغير علم، وقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح:
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (الكهف:66).
فالمستحسن من غير المختص؛ أن يسأل ويستفسر، ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح.
وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين، ولقد قال الشافعي رحمه الله: (ما جادلت عالماً إلا وغلبته، وما جادلني جاهل إلا غلبني!). وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم؛ الذي يجري بين غير المتكافئين.
الأصل السابع:
قطعية النتائج ونسبيَّتها:
من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى. وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب).
وبناء عليه؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر. فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود، وهو منتهى الغاية. وإن لم يكن فالحوار ناجح. إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ. وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً.
وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله: (وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه) ا هـ. من المغني.
ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة.
الأصل الثامن:
الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون، والالتزام الجادّ بها، وبما يترتب عليها.
وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء.
يقول ابن عقيل: (وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة؛ فإنه أنبل لقدره، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق.
قال الشافعي رضي الله عنه: ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني، ولا ردَّها إلا سقط في عيني).
آداب الحوار
1 - التزام القول الحسن، وتجنب منهج التحدي والإفحام:
إن من أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حوار، التزام الحُسنى في القول والمجادلة، ففي محكم التنزيل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن} (الاسراء:53). {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} (النحل: 125).
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة:83).
فحق العاقل اللبيب طالب الحق، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز.
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، الانصراف عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل، حيث قال الله لنبيه: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الحج: 68 - 69).
وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (سبأ:24). مع أن بطلانهم ظاهر، وحجتهم داحضة.
¥