ويلحق بهذا الأصل: تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث، ويعتمد إيقاع الخصم في الإحراج، ولو كانت الحجة بينه والدليل دامغاً .. فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف. وقد تُفْحِم الخصم ولكنك لا تقنعه، وقد تُسْكِته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم، ولو وُجِدَت القناعة العقلية. والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء. وإنك لتعلم أن إغلاظ القول، ورفع الصوت، وانتفاخ الأوداج، لا يولِّد إلا غيظاً وحقداً وحَنَقاً. ومن أجل هذا فليحرص المحاور؛ ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير، ورفع الصوت لا يقوّي حجة ولا يجلب دليلاً ولا يقيم برهاناً؛ بل إن صاحب الصوت العالي لم يَعْلُ صوته – في الغالب – إلا لضعف حجته وقلة بضاعته، فيستر عجزه بالصراخ ويواري ضعفه بالعويل. وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان، والفكر المنظم والنقد الموضوعي، والثقة الواثقة.
على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغيير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام ونوع الأسلوب، لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب، استفهامياً كان، أو تقريرياً أو إنكارياً أو تعجبياً، أو غير ذلك. مما يدفع الملل والسآمة، ويُعين على إيصال الفكرة، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين.
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد، وطغى وظلم وعادى الحق، وكابر مكابرة بيِّنة، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة:
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (العنكبوت: 46).
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم} (النساء: من الآية148)
ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز، قد يُسمح بالهجوم الحادّ المركز على الخصم وإحراجه، وتسفيه رأيه؛ لأنه يمثل الباطل، وحَسَنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً.
وقبل مغادرة هذه الفقرة من الأدب، لا بد من الاشارة إلى ما ينبغي من العبد من استخدام ضمير المتكلم أفراداً أو جمعاً؛ فلا يقول: فعلتُ وقلتُ، وفي رأيي، ودَرَسْنا، وفي تجربتنا؛ فهذا ثقيل في نفوس المتابعين، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس، وقد يؤثر على الإخلاص وحسن القصد، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي، ومن اللائق أن يبدلها بضمير الغيبة فيقول: يبدوا للدارس، وتدل تجارب العاملين، ويقول المختصون، وفي رأي أهل الشأن، ونحو ذلك.
وأخيرا فمن غاية الأدب واللباقة في القول وإدارة الحوار ألا يَفْتَرِضَ في صاحبه الذكاء المفرط، فيكلمه بعبارات مختزلة، وإشارات بعيدة، ومن ثم فلا يفهم. كما لا يفترض فيه الغباء والسذاجة، أو الجهل المطبق؛ فيبالغ في شرح مالا يحتاج إلى شرح وتبسيط مالا يحتاج إلى بسط.
ولا شك أن الناس بين ذلك درجات في عقولهم وفهومهم، فهذا عقله متسع بنفس رَحْبة، وهذا ضيق العَطَنْ، وآخر يميل إلى الأحوط في جانب التضييق، وآخر يميل إلى التوسيع، وهذه العقليات والمدارك تؤثر في فهم ما يقال. فذو العقل اللمّاح يستوعب ويفهم حرفية النص وفحواه ومراد المتكلم وما بين السطور، وآخر دون ذلك بمسافات.
ولله الحكمة البالغة في اختلاف الناس في مخاطباتهم وفهومهم.
2 - الالتزام بوقت محدد في الكلام:
ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام، ويستطيل في الحديث، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع.
يقول ابن عقيل في كتابه فن الجدل: (وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة، بحيث ينصت المعترض للمُستَدِلّ حتى يفرغ من تقريره للدليل، ثم المُستدِلُّ للمعترض حتى يُقرر اعتراضه، ولا يقطع أحد منها على الآخر كلامه وإن فهم مقصوده من بعضه).
وقال: (وبعض الناس يفعل هذا تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه وليس في ذلك فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض وبعضها دليل على بعض، وليس ذلك علم غيب، أو زجراً صادقاً، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به) (9).
¥